ذ. ابراهيم مشطاط *
وأنا أتصفح بعض المواقع الإلكترونية المهتمة بحقل التربية والتعليم في ظل موجة الأقاويل والتكهنات بمستقبل جهاز التفتيش خصوصا بعد اللقاءات الجهوية لوزير القطاع السابق مع الهيأة بمختلف شرائحها والوقفات الاحتجاجية التي نظمتها نقابة مفتشي التعليم مؤخرا وما يعتريه صمت الوزير الجديد الذي لا زلنا ننتظر موقفه من المذكرات العمودية التي صاغتها أنامل سابقه دون أية استشارة أو نقاش مع أهل الدار… استوقفني تعليق أحد زوار الموقع على مقال كتب حول الموضوع وكان لا بد لي من وقفة تأمل مشروعة حول واقع فهم طبيعة العمل الإشرافي من وجهة نظر الآخر، لن نبتعد كثيرا لانتقاء آراء عامة المواطنين أو مجالات أخرى بل سنحاول تفقد النيران الصديقة من جسد المنظومة من أساتذة وإداريين ورؤساء أقسام ومصالح… لفهم التمثلات المحتملة لديهم حول دور جهاز التفتيش الرقابي والتأطيري. للأمانة “العلمية” أنقل إليكم التعليق كما ورد عن صاحبه الذي عرف عن نفسه بأنه إطار بوزارة التربية الوطنية وله غيرة عن مصلحة البلاد والعباد:
“كلمة لا بد منها عن هيئة التفتيش: أولا أتمنى من الوزارة الوصية على قطاع التعليم المدرسي أن تلغي مباراة الالتحاق بمركز تكوين المفتشين بصفة نهائية للأسباب الآتية: 1- جل المفتشين والمفتشات لا يقومون بأي عمل يذكر فهم متقاعدون قبل الأوان ويستنزفون مالية الدولة دون أن يقدموا شيئا لقطاع التربية والتكوين. أقلية قليلة منهم من تقوم بدورها وهي من تستحق التكريم وأغلبهم مركزيون. 2- المفتشون لا يزورون النيابات المعينين فيها إلا مرة في السنة وتحت الطلب وأغلبهم يدرس في المدارس الخصوصية ولا يقوم بالتأطير المنوط به بل يكلفون الأساتذة بأعمالهم الرسمية دون أدنى شعور بالعار. 3- نشكر الوزارة وعلى رأسها السيدة كاتبة الدولة المكلفة بقطاع التعليم المدرسي السابقة على سنها في إطار البرنامج الاستعجالي منصب الأستاذ المرشد لكل المواد الدراسية ونتمنى أن تضاف الى المذكرة 155 مذكرة توضيحية أخرى بحلول الموسم الدراسي المقبل. 4- ولوج مركز المفتشين خول لهؤلاء المفتشين الكسالى الترقية من سلم إلى آخر وهاهم يريدون التعويض عن الإطار، ما هذا الجشع؟ في الحقيقة يريدون تعويضا عن الدخول في الراحة والعطالة. 5- الكثير من الأساتذة المرشدين هم أكثر كفاءة من المفتشين و والله إن الكثير منهم لا يعرف حتى مكونات المنهاج. 6- نتمنى من الوزارة الوصية أن تسند لمن تبقى من هؤلاء المفتشين جداول حصص ينبغي الالتزام بها في النيابات التي يتم تعيينهم فيها وكفى من التسيب في هذا المجال”.
حتى لا أكون منصفا لصاحب الرأي فقد كان تعليقه مصبوغا بلغة ركيكة وأسلوب مبتذل ولا يبعث عن الشعور بأي مستوى تعبيري اللهم إذا كان يدرس إحدى اللغات الأخرى أو تلقى تكوينا بلغة ليست بالطبع تلك التي يكتب بها، ليس هذا هو المهم لكن ما يبعث على التفكير بجدية في هذا التعليق وغيره كثير هو وجود شريحة كبيرة من رجال التربية والتعليم سواء الممارسين داخل القسم أو الإدارة التربوية التعليمية والأقسام النيابية والأكاديمية… لديهم هذا التفسير الضيق لعمل هيأة التفتيش وينظرون لها تلك النظرة الدونية المحتقرة والمختزلة لوجودهم كقطب من أقطاب المنظومة التعليمية.
لن أخوض في مناقشة ما جاء في هذا التعليق لأن صاحبه معذور بجهله وكان عليه أن يدلي بدلوه في حدود معرفته الشخصية ومجال تخصصه وأن لا يتطاول على ما سينتقص من فكره وذكائه، فالتعليق كله مغالطات وأخطاء وهو لا يعدو كونه تشخيصا سطحيا لإحدى الحالات التي يمكن أن نصادفها لكنها لا تخول التعميم والحكم بالجزء على الكل، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو ما الذي يدفع أقلاما من جسد المنظومة للطعن في مصداقية ومشروعية استقلال جهاز التفتيش وهي التي وجب عليها الدفاع عن هذا الإطار لانتمائهم لنفس الجسد وصحتهم من صحته من جهة ، ومن جهة أخرى لضرورة وجود جهاز رقابي ينعم بالاستقلالية التامة عن وصاية الأوصياء ليقوم بعمله النقدي والتصحيحي لضمان سير جيد للمنظومة لما فيه الصالح العام.
لقد كانت سلوكيات بعض المفتشين – لا سامحهم الله – محط خزي وعار على منظومتنا التعليمية، فقد جثموا على صدور الأساتذة ونكلوا بهم وبكرامتهم بل وقد وصل بعضهم حد الابتزاز والرشوة وبيع الترسيمات والتحرش والاستغلال الجنسيين ناهيك عن الانخراط في المشاريع العقارية والفلاحية والسمسرة… لكن وفي الجانب الآخر هناك مفتشون نساء ورجالا أفنوا حياتهم في التأطير الشريف والنزيه وأعطوا كل ما لديهم من جهود لتكوين جيل من الأساتذة ما زالوا يشهدون لهم بالتقدير والامتنان. وهذا أمر طبيعي في زمن كان فيه التفتيش التربوي مقرونا بسنوات الرصاص وعقلية المخزن فكان المفتش التربوي يتقمص أدوار التحري البوليسي في الشكل والهندام وطبيعة التصرف وكان اللقاء التربوي لقاء عموديا بيروقراطيا لا يحق فيه الاحتجاج وإبداء الرأي ولا حتى الكلام في بعض الأحيان. يحكي أحد أساتذة المستوى الابتدائي المتقاعدين: “كان حضور المفتش رهبة لنا ونحن شباب رمتنا تعيينات الوزارة في أمصار المغرب العميق، حضور المفتش كان ضروريا يوم السوق الأسبوعي ليعود حاملا ما جادت به خيرات القرية الصغيرة وأهلها، عند دخوله القسم ينزع معطفه الطويل ويعطيه للأستاذ الذي يتكفل بتعليقه أو وضعه على كرسي نظيف ولم لا دس ورقة نقدية في جيب المعطف إن أراد النفاذ بجلده من تقرير توبيخي جائر، يتدخل المفتش في عمل الأستاذ ويستوقفه ليصحح له “أخطاءه” بل وينهض أحيانا من مكانه ويمسك بالطباشير ويبدأ في إلقاء الدرس وترديد عبارات من قبيل “افعل كذا” و “هذا ليس بدرس” و… أمام ذهول الأستاذ وضياع تام لكرامته وصرامته أمام التلاميذ…”، ويقول أستاذ آخر: ” كانت لدي مشاكل مع مدير المؤسسة فلما قدم المفتش وبالطبع كان من سوء حظي أنه مر بمكتبه أولا وكانت تربطهما صداقة منذ أيام الدراسة فكان شحنه سهل المنال وقد صفعني على خدي في استعراض جائر للنفوذ وانتصار ظالم لصاحبه على حساب كرامتي وحقي، فلم يكن لي إلا أن طأطأت رأسي واعتذرت لهما نظرا لخوفي من انتقام يذهب بمستقبل وظيفتي أدراج الرياح.”…
إن الأمثلة كثيرة على سوء تصرف بعض المفتشين القدامى – أقول البعض وليس الكل – والذين كانوا ولزمن قريب يتلاعبون بمستقبل وكرامة رجال التعليم وينتصرون للنواب والمديرين ولا يقدمون التأطير والتتبع الكافيين مما ساهم بشكل واسع في تشويه سمعة البعض الآخر وتدنيس مهنة التفتيش التربوي التي تظل مهمة صعبة يقدم فيها المفتش الملتزم كل ما لديه من أفكار ويعمل على تقويم عمل الأستاذ دون تجريح أو انتقاص وفي احترام متبادل وتقدير وتثمين للمجهود المبذول. لقد كان لهذه النماذج رغم قلتها الأثر السلبي في تكوين صورة خاطئة حول جهاز التفتيش برمته مما ولد شعورا بالضغينة والكراهية والرغبة الجامحة في الانتقام ولو كان ذلك على حساب أشخاص لا يبغون من عملهم إلا حب الوطن والتفاني في أداء الواجب المهني بكل أمانة ومصداقية.
لقد واجهت شخصيا في الجهة التي أشتغل بها نوعا من الصد والنفور وقد عانيت من مشاكل لم يكن لي فيها دخل من بعيد أو قريب، بل هو إرث وأحكام مسبقة préjugés عن شخص المفتش وطبيعة عمله وتصرفاته… لم أكن أفهم وأنا حديث التخرج سبب الجمود الفكري والصمت الرهيب في الندوات واللقاءات التربوية بل ولم أكن أفهم سبب تقرب ومحاباة البعض وانحنائهم الزائد وأنا الذي أحمل مشروعي الطموح للتأطير والتتبع وتقديم يد العون للأساتذة بجهة عانت من غياب مفتش مختص لحولي عقد من الزمن. لكني فهمت أخيرا ما الذي جناه علي غيري وما جنيته على أحد، فقد كان من سبقني حسب ما يحكي الأساتذة في مشاحنات دائمة معهم حتى فقد الأستاذ ثقته بنفسه وشخصيته وأصبح شخصا لا يستطيع الحديث في المناسبات التأطيرية خوفا من القمع والتأنيب فكانت حربي الأولى لتحرير هذه الروح المسلوبة وتغيير نظرة قبيحة انتهى زمنها والتبشير بعهد جديد له رجاله بأفكار جديدة وتطلعات لعصر الإصلاح والتجديد.
لقد آن الأوان لتغيير النظرة الدونية لجهاز التفتيش وبعث إشارات أمل نحو الجيل الجديد الذي سيحمل المشعل وبالتالي كسب أقلام صديقة تكتب عن المفتش من داخل جسم المنظومة التعليمية بكل تقدير وإجلال لمهامه التربوية الحساسة والجريئة. فاعتراف هذه المكونات التربوية هو تحصين لسمعة المفتش التربوي وتلميع لنظرة الآخرين، ولن يتأتى ذلك إلا بالعمل الجاد والتفاني فيه والاجتهاد في البحث العلمي والسبق لتقديم المقترحات وبناء علاقات احترام وتقدير تنبذ الظلم والاستبداد والتكبر مع الأساتذة الذين يعتبرون مرآة عمل المفتش لأن تطور مستواهم الديداكتيكي نتيجة حتمية لمستوى الجهد المبذول من طرف المفتش، وفي ذلك رسالة تسامح نزرعها فيهم لتكون بداية التغيير وكسب أصوات تدعم استقلالية جهاز التفتيش وتثمن دوره الريادي في توازن منظومتنا التعليمية ويتحقق في ذلك قوله تعالى: “وشهد شاهد من أهلها…” (يوسف/26).
باحث تربوي/ مفتش منسق جهوي تخصصي بجهتي تادلة أزيلال والشاوية ورديغة *
مادة التربية التشكيلية
ابراهيم مشطاط
مفتش منسق جهوي تخصصي لمادة التربية التشكيلية
بالأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة تادلة أزيلال
مكلف بالتفتيش بالأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بجهة الشاوية ورديغة
MECHTAT Brahim
Inspecteur Pédagogique Coordinateur Régional Spécialisé
de l’ Education plastique à A.R.E.F Tadla Azilal
chargé d’inspection à A.R.E.F Chaouia Ouardigha
إرسال تعليق