*عبد الغفور العلام |
يعيش قطاع التربية والتعليم على
وقع خطاب الأزمة التي ترخي بظلالها على جميع مفاصل منظومة التربية والتكوين، مما
يجعل هذا القطاع في مفترق الطرق، ويطرح أمامه بإلحاح مسألة الإصلاح التربوي الذي
يعتبر في الوقت الراهن مطلبا مجتمعيا آنيا ومستعجلا. الشيء الذي دفع بالسلطات
التربوية الوصية على قطاع التربية الوطنية إلى الإسراع في بلورة وإعداد تصور جديد
لمدرسة المستقبل.
وفي هذا السياق ، وبعدما كان قد
قدم أمام المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في دورته الثانية الملامح
الكبرى لرؤية الوزارة للإصلاح التربوي في أفق 2030، عرض وزير التربية الوطنية
والتكوين المهني بمقر وكالة المغرب العربي للأنباء يوم الثلاثاء 23 شتنبر 2014
مشروع الرؤية الإستشرافية لوزارة التربية الوطنية لإصلاح منظومة التربية والتكوين
تحت عنوان : "مدرسة جديدة من أجل مواطن الغد".
في هذه القراءة التحليلية سنحاول التعرف على ملامح هذه الرؤية المستقبلية
التي أعدتها الوزارة الوصية من خلال استرشادنا بالأسئلة التالية:
- ما هي
سياقات ومرجعيات هذا المشروع التربوي الجديد ؟
- ما هي
أهم الخطوط العريضة لمشروع الرؤية المستقبلية لوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني؟
- هل ينسخ هذا المشروع الجديد أم يكمل ما جاء
به برنامج عمل وزارة التربية
الوطنية المتوسط المدى 2013-2016 ؟
- وإلى أي حد تستجيب هذه الرؤية المستقبلية
لحاجيات و انتظارات وتطلعات الفاعلين
والمتدخلين والمعنيين بالشأن التربوي؟
- و ما هي أهم متطلبات وشروط إنجاح تنزيل المشروع
التربوي الجديد؟
سياق ومرجعيات المشروع التربوي الجديد:
تأتي هذه الرؤية المستقبلية لوزارة التربية الوطنية
والتكوين المهني بعد انقضاء فترة
البرنامج الإستعجالي (2009-2012) الذي اعتبر أنداك نفسا جديدا للإصلاح و امتدادا
لسيرورة الإصلاح التي ابتدأت مع انطلاق الميثاق الوطني للتربية والتكوين .
من جهتها تعتبر الخطب الملكية
الأخيرة (20 غشت 2012و 20 غشت 2013 ) المخصصة لإصلاح منظومة
التربية و التكوين، الأساس المرجعي لهذه المشروع التربوي الجديد، والتي شخص فيها
جلالته واقع التربية والتكوين ببلادنا ، حيث
أشار إلى " أن ما يحز في النفس أن الوضع الحالي للتعليم أصبح أكثر سوءا،
مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أزيد من عشرين سنة". ولتجاوز هذه الوضعية أكد
جلالته على "أن الوضع الراهن لقطاع التربية والتكوين يقتضي إجراء وقفة
موضوعية مع الذات، لتقييم المنجزات، وتحديد مكامن الضعف والاختلالات".
وفي نفس سيرورة الإصلاح جاء تنصيب المجلس الأعلى
للتربية والتكوين والبحث العلمي " كمؤسسة نوعية مختصة في إبداء الرأي في كل السياسات العمومية والقضايا الوطنية التي تهم
التربية والتكوين والبحث العلمي، والإسهام في تقييم السياسات والبرامج العمومية
ذات الصلة بهذه الميادين. و كفضاء للتحليل والتفكير الشمولي الإستراتيجي بمنهجية تقييمية وبُبعد استشرافي، يهتم بالمكانة الاجتماعية
للمدرسة ووظائفها، ودور الجامعة ومهامها، ووظيفة البحث العلمي ومكانته، و يساءل
المنظومة التربوية عن أدائها وقيمة مردوديتها وجودتها."
زيادة على هذا، فقد اعتمد هذا
المشروع التربوي الجديد في مرجعيته كذاك على الميثاق الوطني للتربية والتكوين
باعتباره أهم وثيقة لإصلاح منظومة التربية و التكوين أجمع وتوافق عليها مختلف
الفاعلين والفرقاء والمتدخلين والمهتمين بالمجال التربوي ببلادنا، والتي تم الحسم
من خلالها في المرتكزات الثابتة والغايات الكبرى لنظام التربية والتكوين.
مكونات
المشروع التربوي الإصلاحي الجديد:
هذا المشروع يهدف بالأساس - حسب وزير التربية الوطنية والتكوين المهني -
إلى تغيير المدرسة المغربية "...
لتمنح بشكل منصف، لكل المواطنين تعليما وتكوينا ذي جودة، مرتكزا على القيم
والمبادئ العليا للوطن، ولتؤهلهم للاستعداد للمستقبل، و الانفتاح والمساهمة
الفعالة في بناء الرأسمال البشري الذي يحتاج إليه الوطن، وكذا الانفتاح على المبادئ
الكونية"
وانطلاقا من هذا الهدف الإستراتيجي المعلن من طرف وزارة التربية الوطنية، يمكننا استخراج
الكلمات المفاتيح التي يتمحور عليها مشروعها التربوي الجديد والتي يمكن إجمالها في
: الإنصاف، الجودة ،القيم، الرأسمال البشري، الإنفتاح.
تيمات الرؤية
المستقبلية:
جاءت الرؤية المستقبلية تحت عنوان "مدرسة جديدة من أجل مواطن الغد"
. وعند تصفحنا لوثيقة المشروع التربوي الجديد نجده يتمحور حول ثلاث تيمات أساسية:
التجديد والتغيير، المواطنة والقيم، الغد والمستقبل.
تيمة التجديد
والتغيير :
فالمشروع التربوي الجديد لوزارة التربية الوطنية انتقل بنا من مفهوم "مدرسة
النجاح" المتداول إبان البرنامج
الإستعجالي إلى مفهوم "المدرسة
الجديدة". والتجديد كما هو معلوم يتطلب التغيير والتحول أو الإنتقال من
حالة إلى أخرى ومن وضعية إلى أخرى، وهذا يحيلنا على مجموعة من الأسئلة المقلقة:
ما طبيعة ومدة وشدة هذا التغيير ؟ وهل هو تغيير عميق وممتد في الزمن أم
تغيير محدود مرتبط بزمن حكومي و بأجندات سياسية معينة؟ ثم هل هذا التغيير المرتقب
للمدرسة المغربية جاء نتيجة لعوامل وأسباب
داخلية أم نتيجة ضغط خارجي فرضته مؤثرات خارجية؟
زيادة على هذا، هل تمتلك الوزارة الوصية الآليات والأدوات والوسائل الكافية لقيادة هذا التغيير الإستراتيجي
لمنظومة التربية و التكوين (المقاربات والمنهجيات، الموارد البشرية والمالية
والمادية، التشريعات والقوانين والمساطر...)؟
صحيح أن وزارة التربية الوطنية
راكمت تجربة تربوية و تدبيرية مهمة إبان تنزيلها لمشاريع البرنامج الإستعجالي
باعتمادها على مقاربات المشروع والتدبير
المتمحور حول النتائج ، وتمرس مسؤولوها (مركزيا وجهويا وإقليميا ومحليا)على قيادة
المشاريع التربوية تخطيطا وتنفيذا وتتبعا وتقييما ، لكن هذا في اعتقادنا لا يكفي لإنجاح تنزيل مشروع تربوي مستقبلي بهذا
الحجم. فالإكراه المالي سيطرح بحدة ، ومسألة التمويل التي لم يشر إليها في وثيقة
المشروع ستشكل نقطة ضعفه الرئيسة.
إضافة إلى هذا، هل مشروع التغيير المطروح، مع القطيعة والبداية من جديد، أم
مع التراكم و الترصيد والبناء على المكسبات؟ فلقد اعتدنا في ممارسات تدبير الشأن
التربوي السابقة على خيار القطيعة ، فكل مسؤول
جديد يأتي يقطع مع الماضي ويبدأ من
جديد، مما يفوت على المنظومة التربوية الاستفادة من ما تحقق من إيجابيات وما تراكم
من مكتسبات ، ويساهم بالتالي في تضييع
الوقت والجهد و تبديد الموارد والإعتمادات المرصودة.
تيمة التربية على القيم
والمواطنة:
ما من شك أن موضوع التربية على القيم و المواطنة يعد من الإشكاليات المؤرقة
والشائكة التي تعاني منها المنظومة التربوية. فمجوعة من مؤسساتنا التعليمية بدأت
تظهر بها مؤخرا - وللأسف - بعض الظواهر السلبية والمشينة ( العنف، الغش، الإنحراف
بشتى أنواعه، تخريب الممتلكات العامة،عدم احترام معايير الحياة المشتركة...) الأمر
الذي جعل من تخليق المدرسة الهدف الأسمى للمشروع التربوي الجديد وهذا يعتبر من
حسناته . لكنه في المقابل، لم يدقق بالشكل الكافي في نموذج ومواصفات مدرسة التربية
على المواطنة وترسيخ منظومة القيم، باعتبارها مؤسسة للتنشئة الإجتماعية تسعى بالأساس
نحو غرس القيم النبيلة وممارستها ممارسة فعلية داخل المدرسة وخارجها حيث تنتقل من مستوى التعرف و التحسيس إلى مستوى
الأجرأة والتملك .
مدرسة الغد والمستقبل:
ينبغي في البداية التأكيد على أن زمن الإصلاح التربوي ليس هو الزمن المدرسي
ولا الزمن الحكومي ( السياسي). و سيرورة الإصلاح تمتد في الزمن و تتطلب الوقت الكافي،
وهنا يكمن البعد الإستشرافي لرؤية 2030. ومن
الأكيد كذاك، أن التحديات والتحولات السريعة والمتلاحقة التي يعرفها العالم (هيمنة العولمة، الاتجاه نحو مجتمع المعرفة
والمجتمع الرقمي ...) يفرض على الوزارة الوصية التفكير بجدية في المستقبل ووضع السيناريوهات الإستشرافية
الملائمة لمنظومة التربية و التكوين.
وانطلاقا من هذا ، يلاحظ أن الرؤية
المستقبلية لوزارة التربية الوطنية رغم تقديمها للملامح الأساسية لرؤية 2030 فإنها
لم تحدد، لا المحاور الإستراتيجية الكبرى للتغيير التربوي المنشود، ولا أدوار ووظائف
و مواصفات مدرسة المستقبل، والتي لخصها العديد من المستقبليين المهتمين بالمجال
التربوي في:
- المدرسة
كمؤسسة للتربية و التعليم: عبر تطوير المعارف والمهارات في مدرسة تقوم على التجريب
والابتكار و الإستعمال المناسب للتكنولوجيات الجديدة للتعليم و تنمية وتطوير شبكات
التعلم (تشبيك التربية و التعليم).
- المدرسة في قلب المجتمع:من خلال تثمين وتعزيز دور المدرسة في المجتمع
حيث يتم التركيز على التنشئة والإدماج الاجتماعيين والتربية على القيم والمواطنة.
منهجية
إعداد المشروع التربوي الجديد:
لقد اعتمد معدو المشروع التربوي الجديد على طريقة SWOT ( القوة، الضعف، الفرص، التهديدات) في بناء
مشروع الرؤية المستقبلية للمدرسة الجديدة وهي عبارة عن أداة للتحليل الإستراتيجي و
الإستشرافي للمشاريع . حيث ثم عرض نقط الضعف ( الإختلالات وأوجه القصور في
المنظومة التربوية) و نقط القوة (ما تحقق من إنجازات خلال فترة الميثاق الوطني
للتربية و التكوين وفترة البرنامج الإستعجالي) في حين لم يتم التفصيل في المخاطر التي ستهدد تنفيذ
المشروع المستقبلي ( نقص الموارد المالية، ضعف التعبئة المجتمعية حول الإصلاح،
صعوبة تنفيذ التشريعات والقوانين المنظمة القائمة وعدم ملاءمتها مع الواقع التربوي...).
كما لم تتم الإشارة كذاك، إلى الفرص المتاحة - وما أكثرها - ( مجموعة من الأطر
المؤهلة في قيادة المشاريع التربوية، رسملة وترصيد التجارب السابقة ... )
والتي من شأنها تقوية حظوظ نجاح المشروع .
أساس المشاريع
ذات الأولوية:
اشتملت الرؤية المستقبلية للإصلاح على مشاريع
ذات أولوية تعتزم الوزارة مباشرة إنجازها ابتدءا من السنة الدراسية 2014 / 2015 ، و"هي
مشاريع لا تحتمل الانتظار أو التأخير "حسب السيد وزير التربية الوطني والتكوين
المهني، وتهم المواضيع التالية: النجاعة والفعالية، جودة التعليم ، دمج بين
التربية الوطنية والتكوين المهني، اللغات والتواصل، تخليق المدرسة.
وتنتظم هذه مشاريع ذات الأولوية (23
مشروعا) في تسعة محاور تتأسس على مجموعة
من المنطلقات أهمها:
- أهداف أساسية تحدد أسس المعارف والكفاءات ومجالات التعلم التي يجب على التلاميذ
التحكم بها، وكذا الحد الأدنى الذي يتعين اكتسابه مع التركيز على التعلمات التي
تمكن من تملك القيم، السلوك المدني والممارسات المواطنة؛
- نماذج متنوعة للمدرسة تتيح فرصا للتعلم وتراعي خصوصيات التلاميذ والجهات
والسياقات السوسيواقتصادية والثقافية؛
- دمج التعليم المدرسي والتكوين المهني من أجل ضمان انفتاح تدريجي ومحكم
التنسيق في المسار المهني.
وفي هذا السياق ، وعلى الرغم مما جاءت به هذه المشاريع ذات الأولوية من
أفكار مهمة وجديدة تعبر في جزء منها على تطلعات المجتمع المدرسي الموسع والمصغر،
وتحاول أن تجيب على بعض الإشكالية الآنية و المستعجلة للمنظومة التربوية (التمكن
من التعلمات الأساسية، دمج التعليم المدرسي والتكوين المهني ...) فإنها عموما لم
تخرج عن مضامين مشاريع البرنامج الإستعجالي ولا عن المحاور المدرجة ضمن برنامج عمل
الوزارة المتوسط المدى (2013/2016) و الذي يتمحور حول
مجالات : العرض المدرسي، المؤسسة التعليمية، الحكامة، الموارد البشرية. وهذا ما
يؤكد تبني السلطات التربوية لمنطق الإستمرارية و الترصيد والتراكم والبناء على المكتسبات عوض منطق القطيعة والعود
على بدء.
متطلبات
وشروط أجرأة الرؤية المستقبلية:
إن إنجاح المشروع التربوي الجديد يتطلب في اعتقادنا توفر الشروط التالية:
تعبئة الموارد الكافية:
وعلى رأس هذه الموارد المورد البشري باعتباره
حجر الزاوية لإنجاح أي إصلاح . وذلك عبر مداخل التكوين والتحفيز المادي والمعنوي وتكثيف
حملات التعبئة المجتمعية حول المدرسة الجديدة . وكذا الإشراك والتشارك الفعال لكافة
الفاعلين والمتدخلين والمعنيين بمنظومة التربية و التكوين . في أفق ضمان انخراط
الجميع وتحمل وتقاسم المسؤولية في تنزيل الإصلاح التربوي المنشود. زيادة على ضرورة
العمل على توفير الموارد المالية واللوجستيكية الكافية ، والحرص على عقلنتها
وترشيد استعمالها و تتبع ومراقبة صرفها.
تغيير وتبسيط التشريعات والقوانين المنظمة :
وذلك
نظرا لكون القوانين التشريعات الحالية تكبل وتقيد الفاعلين التربويين ( الأساتذة،
الإدارة التربوية، المفتشون، المدبرون...) وتحد من حريتهم وتقلص هامش التصرف والمبادرة لديهم. كما أن
التشريعات التربوية الحالية تجعل من عملية صناعة القرار التربوي بالنسبة للمدبرين
( محليا،إقليميا، جهويا ومركزيا) من أعقد
العمليات في المنظومة التربوية.
تغيير المقاربات التدبيرية:
لا
يمكننا إنجاح الإصلاح المستقبلي بنهج نفس المقاربات ونفس الممارسات السابقة،
فالمطلوب من السلطات التربوية الوصية هو القطع مع بعض الممارسات التدبيرية
السائدة، والتي كانت في بعض الأحيان عائقا أمام التقدم في سيرورة العملية
الإصلاحية. وذلك من خلال اعتماد مقاربات وممارسات تدبيرية جديد ة تروم المزاوجة بين التخطيط
الإجرائي ( المشاريع ذات الأولوية ) والتخطيط الإسترتيجي ( رؤية 2030). وكذا الحرص
على تحقيق المردودية والفعالية والنجاعة. بالإضافة إلى إرساء ثقافة التتبع والتقييم
و الإفتحاص و ترسيخ مبادئ الشراكة
والتشارك والتعاقد مع كافة الفاعلين والمتدخلين وشركاء منظومة التربية والتكوين.
*عبد
الغفور العلام
فاعل تربوي مهتم بقضايا
التربية و التكوين
إرسال تعليق