بقلم: محمد رحومة 
مستشار أول في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي    
المندوبية الجهوية للتربية بقابس - تونس





 التوجيه هو حسب ما ورد في معجم علم النفس " تحديد لأفضل السبل المدرسية أو المهنية المفتوحة أمام التلميذ ، خاصة في نهاية مرحلة دراسية بعد تبين مؤهلاته و ميوله عن طريق عالم نفس محترف أو مختص في التوجيه "  (1) . و يلخص هذا التعريف معظم أركان عملية التوجيه من منطلقات و أهداف و شروط و توقيت . إنّه سند أو مساعدة نوفّرها للتلميذ حتى يتبيّن السبل الضّامنة للنجاح الدّراسي و لرسم معالم مستقبله المهني بأكثر دقّة و توفيق داخل مجموع تشابكات و ضغوطات واقعه الإجتماعي و الإقتصادي . و حتى نفلح في هذه العمليّة فإنه من الضروري أن تتركز المساعدة على إستقراء قدرات التلميذ و كشف ميولاته و نقاط الدعم و الطرافة في شخصيّته إضافة إلى تزويده بكشف دقيق لشروط الإختصاصات و المهن . ولمّا كانت المسألة على هذا القدر من الحساسية و الدقة بما هي الأساس الأوّل  الذي ينبني عليه مصيره و كل مستقبله فيما بعد  ، فإنّه لا مناص من أن يقوم بها مختصون و أشخاص مهيؤون لذلك تكوينا و ثقافة ...
     ولقد تفطّن النظام التربوي التونسي إلى كل هذه الجوانب ولم يتردد في إثباتها والإلحاح عليها في مناشيره و نصوصه الترتيبية كما أنّه أقرّ ضرورة إيجاد سلك مختصّ في هذه العمليّة ذاتها .و نقرأ في المنشور عـــ106ـــدد / 92 أنّه نظرا " لما تتطلبه عمليّة التوجيه من إعلام و توعية و إرشاد و إقناع في صفوف التلاميذ و الأولياء ، فقد استقر الرأي على إنشاء سلك المرشدين في الإعلام و التوجيه المدرسي و الجامعي " (2) كما جاء في نفس المنشور أن عملية التوجيه تهدف " لإعطاء كل المعلومات التي من شأنها أن تنير السبيل ... وذلك توعية للتلميذ حتى نيسر إقباله على الشعبة المناسبة له عن اختيار رصين ... لذا يتعيّن التركيز أثناء الإجتماعات الإخبارية مع كل الأطراف المعنية على أنه لكل شعبة خصوصياتها وأنّه يستحسن بالنسبة إلى التلميذ ووليه اختيار الشعبة الملائمة للنتائج المدرسية والمؤهلات والميول ، توفيرا لأسباب النجاح دون التشبث برغبة ليس لها أساس ولا مبرر (3)"
         وبهذا يتضح لنا أن عملية التوجيه هي بالأساس عملية توعية للمعنيين وإقناع لهم بضرورة ترشيد إختياراتهم و تبصيرهم بأقوم السبل المؤدية إلى الإختيار الموفق .
و لكل ذلك فإن التوجيه المدرسي يتنزّل منذ الوهلة الأولى في الإطار العام لعلم النفس التربوي . فهو عملية بيداغوجية تربوية متكاملة تندرج في دائرة النظام التربوي و تمثل إحدى منظوماته الفرعية .
وهي لذلك تهدف كغيرها من عناصر هذا النظام إلى التسامي بالفرد إلى مستويات عليا من الترقّي وإلى توفير المساعدة له عن طريق مجموعات من المختصّين و تزوّده بكل المعطيات الضرورية التي يحتاج إليها في سعيه إلى إكتشاف ذاته و التثبت من ميوله و أولاعه و لتقرير إمكانياته ومؤهلاته تقديرا صحيحا ييسّر له الإختيار الأفضل واتخاذ القرار الصّائب الذي من شأنه أن يفتح له سبل الوصول إلى ما هو قادر على بلوغه و إلى ما يرغب فيه بعد إستثماره لهذه الإمكانيات وتوظيفه الإيجابي لهذه المؤهلات . و لسبر كل هذه الأعماق يعمد هؤلاء المختصون في علم النفس أو في التوجيه المدرسي إلى المقابلات المباشرة مع التلاميذ        ويستعينون بالروائز الخاصة لذلك أوهم يعمدون حتى إلى إستقراء حياة الفرد و النظر في تاريخه الشخصي إن إستدعى الأمر ذلك ، إضافة إلى أشكال أخرى من الطرق و التقنيات .
         ونستخلص من كل الملاحظات المذكورة وجود تمايز جلي بين التوجيه و التوزيع ، فهما عمليتان مختلفتان و لا يمكن بأي حال ردّ الأول إلى الثاني ، أي لا يمكن إختزال التوجيه في مجرّد عملية ميكانيكية يمكن أن يقوم بها الحاسوب بكثير من الدقة و الإتقان كلما زوّد بالمعطيات الضرورية لذلك . فالتوجيه المدرسي ليس توزيعا للتلاميذ على الشعب و المعاهد وفق ترتيب تفاضلي تكون الأعداد و المعدّلات الفيصل الوحيد فيه . و لقد نبّهت الوثائق الرسمية من الوقوع في هذا المطبّ ، إذ جاء في المنشور عـــ106ـــدد أن إعتماد المقاييس المضبوطة بالدّليل مطلوب لكن «  دون أن يكون ذلك بصفة آلية ، بحيث يجتهد المجلس لتقييم الإمكانيات الحقيقية للتلميذ في مادة من المواد دون الإقتصار على المعدّل الذي تحصل عليه التلميذ في هذه المادّة ، على أن يكون هذا التقييم موضوعيّا " (4) إن التوجيه المدرسي " يتأسس على ميولات و أولاع   ومعارف و مؤهلات المعنيين أما التوزيع فهو إجتهاد من أجل الإستجابة أكثر ما يمكن لطاقات الإستيعاب ولقرارات التوجيه " (5) أي أن التوزيع هو عملية إيجاد التوازن الضروري بين القرارات التي اتخذت وبين الإمكانيات الفعلية للعمل بها حتى لا تختل الفصول وهو بذلك يبقى من مكمّلات التوجيه و من مراحل السعي إلى تنفيذ ما جاء به . و في كل الحالات تبقى أفضل صيغة للتوجيه و أكثرها إنسانية متمثلة في أن يكون إيراديا و ليس بفعل قسري خارجي . يقول روكلان Maurice Reuchlin : " إن آليات التوجيه تقود جمهور التلاميذ إلى التوزّع الذاتي بشكل ما من الأشكال بين شعب مختلفه المدّة و المحتوى ، و بين مختلف أصناف المؤسّسات التي يمكن أن تتابع داخلها هذه الدروس " (6) . و بلوغ هذه الدرجة يتطلب بالأكيد مجهودات كبيرة ومضاعفة لتكثيف الإعلام والإتصال حتى يحصل الإقناع . و في النظام التربوي التونسي تتحدّد عملية التوجيه المدرسي آخذة بعين الإعتبار المعطيات التالية التي جاءت بها المناشير ومطوية دليل التوجيه :
         - نتائج التلميذ
         - مؤهلاته الفكرية و الجسدية
         - إهتماماته و ميولاته
         - رغبة الولي
         - طاقة الإستيعاب في كل شعبة من الشعب
         -  مقاييس التوجيه المدرجة بالدّليل المخصص له ،
و ينتظم التلاميذ على إثر هذه العمليّة في الإختصاصات  و الشعب الخمسة التالية التي تفضي جميعا إلى شهادة الباكالوريا : الآداب - الرياضيات - العلوم التجريبية - التقنية ثمّ الإقتصاد و التصرف .
         ويمكن أن نلاحظ في نفس الإطار دائما ، أن من الباحثين (7) من رسم لعملية التوجيه هذا المسار الذي يبدأ بالإعداد ثمّ يمرّ إلى الإنجاز لينتهي فيما بعد إلى المتابعة التي تثيره من جديد و تجعله عمليّا غير منته :
         1- مرحلة الإعداد التي تعني بتجميع المعطيات و الوسائل الضرورية و توزيع العمل بين مختلف الأعضاء المسؤولين وفق جدولة واضحة و تنسيق محكم بين كل أنشطتهم .
         2- مرحلة الإعلام حيث توضع على ذمّة التلاميذ والأولياء والأساتذة كل المعلومات والتوصيات التي تخصّ الجهاز التربوي من شعب واختصاصات وآفاق مهنية وفرص تشغيل .
         3- مرحلة التوجيه التي يعمق خلالها الحوار بين الأولياء والتلاميذ من جهة والأساتذه ومستشاري التوجيه من أخرى حتى يتمكن المعنيّون من صياغة إختيارات واقتراحات توجيه واقعيّة .
         4- مرحلة التوزيع وخلالها يقرّر لكل تلميذ ناجح الشعبة أو الإختصاص الذي تحصّل عليه والمؤسسة التربوية التي عليه أن يلتحق بها .
         5- مرحلة المتابعة ، وهي تهتم بتجميع المعلومات التي تساعد على التقويم وعلى النظر إن كان مجموع العمليات السابقة ناجحا أم به ثغرات وإن كان قد أدّى إلى قرارات صائبة أم لا .
         ولئن أخذ نظام التوجيه في بلادنا بالسمات العامة لهذا المسار فإنّه حريّ بنا أن نثبت بعض الملاحظات التي تربط بخصوصيات هذا النظام وبمواضع طرافته.فمنشور عــ106ــدد مثلا وكذلك المناشير الأخرى الصادرة عن الإدارة العامة للتعليم الثانوي والموضّحة لنفس المسألة ، قد قسّمت مرحلة التوجيه إلى إثنتين : الأولى تمهيديّة تعقد بعد الثلاثي الثاني " لضبط مستوى كل فصل والتعرّف على تطور نتائج كل تلميذ وعلى مؤهلاته الفكرية والجسدية واهتماماته وميوله وعلى رغبة وليّه فيما يتعلّق بالتوجيه (8) " . ويقوم خلالها مجلس القسم باقتراح توجيه أولى للتلميذ ، يمكن أن يزكّي نهائيا خلال المرحلة الثانية التي تتزامن ومجالس الأقسام النهائية أو أن يعدّل أخذا بعين الإعتبار لتطورات نتائج التلميذ و لطاقة الإستعاب في كل شعبة  .
         ولئن كان هذا التمشي إيجابيا ويعتبر من مميزات عملية التوجيه عندنا ويعكس حرصها على التروّي والتعمق ، فإن مرحلة المتابعة المذكورة سالفا غير واضحة في مناشير التوجيه الرسميّة ، رغم مالها من قيمة ومن أبعاد . لكن يمكن أن تتنزّل عملية إعادة التوجيه في هذه الدّائرة لأنّها تنتمي ترتيبيا وعمليّا إلى هذه المرحلة حتى و إن لم تنصّص الوثائق على ذلك صراحة .
----------------------------------
  
     *** المراجع :
                                                                                        
1- Le grang dictionnaire de la psychologie - Larousse 1994 p:538
2-المنشور عدد 106/92 صادر عن إدارة التعليم الثانوي بتاريخ 6 نوفمبر 1992 ص2
3-نفس المنشور ص4
4- المنشور عدد 106/92 صادر عن إدارة التعليم الثانوي بتاريخ 6 نوفمبر 1992 ص6
5-Procédures d’orientation OSP 5ème année - N°3 1976 - p:236 
voir aussi Jean-Michel Berthelot : Ecole , orientation , société . ed .PUF 1993 - p: 116
6-Maurice Reuclin : L’orientation scolaire et Professionnelle ed. PUF - p: 5  ( Que sais-je N° 121 )
7- R. Begarra - ibid - pp : 233 - 234
8- المنشور عدد 20/93 صادر عن الإدارة العامة للتعليم الثانوي بتاريخ 18 فيفيري 1993 ص3

إرسال تعليق

 
Top