نقرأ في جريدة مدرسة الوطن دلالة العنوان الذي سطعت فوقه شمس ذهبية منبثقة من لفافة كتب مفتوحة لإشباع نهم القراءة المستمر لدى فئة كبيرة من المواطنين الواعين. فالجريدة التنويرية تلبية نداء مستقبل وطن، والمساهمة فيه، والمشروع ينظر إلى البعيد، يعتلي القمم، يحلق كالنسر ليتفحص بطن النملة، كما أورد رئيس التحرير الحسن اللحية، الأستاذ الباحث في علوم التربية و المؤلف في كل ما له علاقة بالمدرسة المغربية ومنظومة التعليم ببلادنا. فكأن الحسن يحاول نقد الفراغ الهائل في ميدان التأليف التربوي بالمغرب، أو هو يراه غير مقنع صغير مثل النملة، التي يتفرسها النسر الثاقب النظرة، الذي يفترس إنتاجها الهزيل الميكروسكوبي، لأن بصر النملة يحتاج لقوة بصر تكبره وتفضح المستور.
الشكل جاء مفتوح الألوان التي غلب عليها الأحمر والأبيض والأسود والأصفر في تناسق بصري هادئ محفز، زينته حروف تافيناغ المختلطة مع حروف الضاد. بثمن زهيد يعتبر مشجعا على اقتناء المنتوج لما يتضمنه من نوعية تربوية جيدة تنزع للعلمية والعقلانية والحداثة والواقعية كما سنرى، في ستة عشر صفحة، متحت من مختلف أصناف المواضيع، التي جاءت بالترتيب التالي:
1- أول المواضيع تشرف به الأستاذ الطالب المفتش بمركز تكوين مفتشي التعليم السيد عبد الرحيم الهرنان، في باب مقترحات، تعرض فيه لدور التربية الذاتية للطفل، وذكر الطرائق المستندة على آليات التكيف مع الحياة الاجتماعية، وطريقة المشروعات، و طرق التعليم المتبادل و العمل في فرائق، معتمدا على مناهج و أفكار "جان بياجيه" و "بستالوتزي" وغيرهما.
2- ثاني المواضيع في الصفحة الثانية وقع باسم الحسن اللحية، افتتحه بعبارة قوية ميكيافيلية تقول "إن حب الوطن يستحق الفضيحة"، فهل ستكون هاته الجريدة فاتحة لعهد جديد من النقد الموضوعي البناء الفاضح لفشل سياسة الوزارة الوصية على مدرسة الوطن؟ هل ستنتج مدرسة الوطن قوة مؤثرة فاعلة في دواليب تسيير أهم قضية بعد قضية الصحراء؟ سؤال تجيب عنه الأعداد القادمة، التي ينتظر محرروها مساهمة فعالة من كل الأقلام المنشغلة بالقضية الأولى تربويا واجتماعيا وهي إصلاح التعليم بنيويا في المغرب، وعدم تكرار أخطاء الاستعجال وعدم مشاورة الأطراف الفاعلة في تقرير مصير أطفالنا ومستقبل الوطن.
ثم ذكر الأستاذ الباحث مقالة معبرة لجون جوريس يخاطب فيها المعلمين المسؤولين عن الوطن، الذين عليهم تعليم
الأطفال الديمقراطية الحرة إلى جانب القراءة والحساب، و أن يعرفوا حقوقهم وواجباتهم ، ويكونوا فكرة عن الإنسان.
إن تيار مدرسة الوطن هو تيار التربية الجديدة، يمتد من فلسفة الأنوار، يقول اللحية، يؤمن بالفرد وما يتوفر عليه من إمكانات وقدرات، أسسها الفكرية عقلانية.
إنه الانتماء لفكر الحداثة وأخلاق العلماء، لا أخلاق الفقهاء والمرشدين، من أجل تحرير التعليم والتربية، فلا يتدخل المدرس في الحياة الخاصة للتلاميذ.
وعرف الحسن مفاهيم الوطن والعقلانية والتنوير التي تكون إلى جانب الحداثة رباعيا ذا أبعاد متماسكة بينها، فلا يمكن الحديث عن العقلانية دون الحداثة، إذ لا توجد غاية أخروية هنا، لأن الفاعل الوحيد هو العقل وحده حتى يقود لثقافة التحرر.
والتنوير يعارض التعصب fanatisme الرافض للآخر و المبني على الجهل، لأن التربية هي تعليم النسبية وتربية الأذن والعقل واللسان.
هكذا تصير المدرسة فضاء لتعديل الأفهام والذهنيات والعقليات والأحكام، وتحارب النزوعات العلموية والمذهبية والعرقية الإثنية و اللغوية والدينية.
3- ثالث المواضيع تطرق لإصدار تربوي، لمبارك ربيع في عواطف الطفل - دراسة في الطفل والتنشئة الاجتماعية، وهي دراسة تحليلية معمقة للعوامل التي تؤثر في عواطف الطفل.
4- رابع المواضيع مقالة في تدريس وتعلم الكفايات، لصاحبها الأستاذ توفيق التضمين، بدأها بالحديث عن تفعيل الميثاق، لأن المناهج التربوية هي مرآة لمشروع المجتمع المغربي، وميدانيا على أساتذة مختلف المواد المدرسة تقديم دروسهم وفق بيداغوجيا الكفايات.
5- خامس المواضيع في صفحة بيداغوجيات هو بيداغوجيا اللعب، وهو مضمون بحث أشرف عليه الأستاذ الحسن اللحية وأنجزه الطلبة بالمركز التربوي الجهوي عام 2010، وتطرق لتعريف اللعب، والنظرة السيكولوجية التفسيرية له، وأنواعه.
6- سادس المواضيع لعبد الكريم سفير بعنوان فقهاء المالكية الفلسفية، تطرق فيه لكرونولوجيا المسار الفلسفي بالمغرب، من السبعينات حتى التسعينات، ثم لغاية نهاية التسعينات، فالمرحلة الثالثة بعد صدور الميثاق الوطني للتعليم.
7- سابع المواضيع قدمه الإطار الأستاذ الباحث المدرس بمركز تكوين مستشاري التوجيه التربوي السيد
خالد أحاجي بعنوان "مدخل إلى التقويم التربوي"، حيث أمام تميز وتقدم دول بعينها يطرح السؤال حول الوسائل التي عبدت الطريق لذلك؟ الجواب هو نظام التربية والتكوين القائم على قياس مدى تقدم القراءة، القائم بدوره على مخطط واضح ومشروع مدروس مسبقا، ليأتي التقويم بعد ذلك، وهو على علاقة بمفاهيم أخرى كالقياس والتفحيص والتتبع..
8- الموضوع الثامن "من أجل التعاقد حول ميثاق جديد" ،ويمكن وسمه بأب المواضيع التي حملها العدد، لما له من ارتباط بقضايا الساعة من قتل البرنامج الاستعجالي، ثم إصدار وثيقة جديدة حلت محله تحت عنوان" برنامج العمل الموتسط المدى 2013-2016".
ويتساءل الكاتب عن الفرق بين هاته الوثيقة والبرنامج الاستعجالي، والذين أخرجا للوجود كلاهما دون استشارة شركاء المدرسة والفاعلين السياسيين والنقابيين.
وهو موضوع جدير بالقراءة الفعلية المباشرة لا يحويه تلخيص ولا يفي بما فيه تنويه. لقد ركز الكاتب على تقويمات المجلس الأعلى والقطع مع ثقافة الميثاق، و إن الاهتمام بالمدرسة الوطنية العمومية لم يعد واضحا لا عند السياسيين ولا عند النقابات ذات المطالب الخبزية.
ويستغرب الأستاذ اللحية - الذي لم يوقع المقال باسم - كيف يتم التخلص من التعليم لدى السياسيين و النقابيين منذ عهد الميثاق، مع الحديث في نفس الوقت عن أجرأته وتنزيله، ثم انتقل الجميع فجأة للحديث عن البرنامج الاستعجالي دون توقف ولا مساءلة ونقاش حول مصير المدرسة.
فعلى الدولة أن تفكر بالاستراتيجيات البعيدة المدى، وعلى الأحزاب السياسية والنقابات أن تتخلص من ثقافة رجع الصدى والببغاوية ، و أن تبادر إلى جعل التعليم ورشا ثقافيا مفتوحا.
إن أي تعاقد جديد يعتبر ضرورة تاريخية، على أن يقوم على
* التعاقد حول قيم العدالة في الاكتساب المدرسي.
*التعاقد حول الإنصاف في الفضاء المدرسي.
*التعاقد حول تكافؤ الفرص في الولوج إلى الفضاء المدرسي.
*التعاقد حول احترام الطفل...
*التعاقد حول احترام الطفولة
*التعاقد حول تعددية استراتيجية التعلم لدى المتعلم.
9- الموضوع الموالي هو الذي شكل ملفه، وهو حوار مع الباحث والكاتب والمناضل الحقوقي أحمد عصيد - كما قدمته الجريدة - تحت عنوان " نريد نظاما تعليميا ينتمي للأزمنة الحديثة ".
في أول سؤال عن تحقق شروط نظام تربوي من عدمه، أجاب عصيد نافيا تحققه على الوجه المطلوب، لعدة أسباب منها وجود عطب وارتباك في مفهوم الوطنية المغربية ذاته، لأنه مبني على مرجعيتين كولونياليتين، هما مرجعية النموذج اليعقوبي الفرنسي ومرجعية القومية العربية الإسلامية، التي جعلت المشرق مركزا ثقافيا وهوياتيا للمغرب - يقول أحمد عصيد-
والسبب الثاني الذي عرقل وجود شروط طبيعية لنظام تربوي وطني هو اعتبار التعليم منذ بداية مرحلة الاستقلال مجال تجاذب بين السلطة و تيارات سياسية وإيديولوجية مختلفة، وفرضت السلطة الأقوى إيديولوجيتها على المنظومة التربوية.
و العامل الثالث تأثر النظام التربوي بالتصدعات التي أصابت النسق السياسي والمؤسساتي بالمغرب، فانعكست درجة الفساد العظمى على المؤسسات الوصية على التعليم.
العامل الرابع عدم وجود تراكمات للتجارب الناجحة، فكل وزير يأتي يمحو آثار من سبقه، مععامل استنساخ التجارب الأجنبية بشكل آلي دون مطابقتها مع السياق الوطني.
ويمكن إضافة عامل الإحباط العام و انسداد الآفاق وشيوع البطالة وعدم ارتباط التعليم بسوق الشغل.
وفي جوابه عن الأسس الفلسفية الواجب توفرها في المدرسة المغربية الوطنية، قال أحمد عصيد، بمبدإ الحرية، دون شحن وترويض ووصاية للتلاميذ، بل ينبغي تزويدهم بمبادئ المعرفة و الاكتشاف والبحث والسؤال، بعيدا عن النمط التقليدي. ويرتبط بهذا المعنى بناء الشخصية المواطنة ذات الحس النقدي والثقة في النفس والقدرة على الاختيار الحر، لا صناعة المؤمنين الذين يعيدون صناعة منظومة القيم الثابتة التي تسود داخل الجماعة. ومن الأسس أيضا التربية على الوطنية الحق، باحترام كل الهويات المكونة لتاريخ المغرب قبل 12 قرنا خلت. ثم معرفة حقوق المواطن و العمل على توعية التلميذ بثقافة المواطنة، بعيدا عن الدوغمائية والانغلاق على المادة الدينية الخام، دون نقلها للمنطق الديمقراطي الحديث، وهو ما يعني ضرورة ملائمة المضامين الدينية في التعليم مع العلم ومع حاجات التعليم العصري.
تحرير جمال يجو - مستشار متدرب في التوجيه التربوي
يتبع و يعدل في الساعات القادمة
عن موقع : http://www.ahfir24.com
إرسال تعليق