الحلقة الثانية
أنــــواع الوضعيـــات:
إن الوضعيات هي مجموعة من الأطر والمؤشرات والظروف السياقية التي تحدد المشكلات والعوائق والصعوبات التي تواجه التلميذ، الذي يتسلح بدوره بمجموعة من المعارف والقدرات والكفايات الوظيفية، قصد حل هذه الوضعيات المعقدة والمركبة، والحصول على إجابات وافية وصحيحة للبرهنة على صدق هذه الكفايات والقدرات المكتسبة، عبر مجموعة من التعلمات والموارد المدرسية المنجزة مسبقا. ويمكن أن نضع التلميذ أمام عدة وضعيات تبرز طبيعة الكفاية لديه، وهذه هي التي ستحدد لنا أنماط الوضعيات – المشاكل على مستوى مؤشرات الأطر السياقية:
الوضعية المكانيـــة:
- أن يكون التلميذ قادرا على كتابة الإنشاء داخل القسم.
- أن يكون المتعلم قادرا على إجراء التجربة داخل المختبر.

الوضعية الزمانيـــة:
- أن يكون التلميذ قادرا على كتابة قصيدة شعرية في ساعتين.
– أن يقطع التلميذ مسافة 40 كلم في ساعتين.

الوضعية الحاليـة:
- أن يكون التلميذ قادرا على تمثيل هذا الدور المسرحي بطريقة كوميدية.
- أن يكون المتعلم قادرا على السباحة على ظهره في مسبح المدرسة.

الوضعية الأداتيـة أو الوسائلية:
- أن يكون المتعلم قادرا على كتابة نص من ألف كلمة بواسطة الكمبيوتر.
- أن يكون التلميذ قادرا على القفز بواسطة الزانة.

الوضعية الحدثيـــة أو المهاريـة:
- أن يكون التلميذ قادرا على إنجاز تقطيع هذا البيت الشعري، وتحديد بحره العروضي.
- أن يكون التلميذ قادرا على إصلاح الآلة الموجودة فوق الطاولة.
الوضعية التواصليــة:
- أن يكون قادرا على استخدام أسلوب التحذير، وهو يتكلم بالإسبانية مع شخص يدخن سيجارة في الحافلة.
- أن يكون قادرا على التواصل بالإنجليزية، وهو يكتب رسالة إلى صديقة البريطاني في لندن.
ومن جهة أخرى، يمكن أن نحدد أنواعا أخرى من الوضعيات الموقفية قياسا على ما ذهب إليه إيريبان (IRIBANE) في تصنيفه للكفايات[1]:
وضعيات التقليد والمحاكاة:
ترتكز على مهمات التقليد، وإعادة المعارف والمهارات المكتسبة عن طريق التطبيق والمماثلة والحفظ والإعادة ( وضعيات الاجترار).
 وضعيات التحويل:
تنطلق من وضعية معينة من العمل لتطبيقها على وضعيات غير متوقعة ، بيد أنها قريبة بالتفكير بالمثل، والاستفادة من الوضعيات السابقة لحل الصعوبات، عن طريق تحويلها لإيجاد الحلول المناسبة (وضعيات الاستفادة والامتصاص).
وضعيات التجديد:
تنطلق من مواجهة مشاكل وصعوبات وعراقيل جديدة، وتقديم حلول مناسبة لها. ( وضعيات الحوار و الإبداع).
هذا، ويمكن تصنيف الوضعيات من الناحية التقويمية المعيارية على النحو التالي:
® وضعية أولية: يتم طرح مجموعة من الوضعيات الإشكالية للتلميذ أثناء بداية الدرس أو قبل الشروع فيه، وتتعلق هذه الوضعيات بمراجعة الدرس السابق، أو دفعه إلى الاستكشاف، أو حثه وتشجيعه على استعمال قدراته الذاتية والمهارية.
® وضعية وسيطية: يقدم المعلم للمتعلم مجموعة من الوضعيات أثناء مرحلة التكوين والتعلم الذاتي لحل مشاكلها، اعتمادا على الأسناد والوثائق والنصوص والتعليمات ومعايير التقويم. والهدف من ذلك كله هو التثبت من قدرات التلميذالتعلمية والمفاهيمية والمهارية.
® وضعية نهائية: يواجه التلميذ في نهاية الدرس وضعيات نهاية إجمالية أو نهائية هي التي تحكم على التلميذ إن كان كفءا أم لا؟ وهل تحققت عنده الكفاية الأساسية أو النوعية أم لا؟ وهل أصبح قادرا على مواجهة الصعوبات والوضعيات الإشكالية والمواقف الواقعية الصعبة أم لا؟ وهل تحقق الهدف المبتغى والغاية المنشودة من التكوين والتعلم الذاتي أم لا؟
وينبغي لهذه الوضعيات أن تتناسب تماثليا مع التقويم الأولي والتكويني والإجمالي في إطار العملية التعليمية – التعلمية.
وعلى مستوى المحتوى أو المضمون والخبرات، فهناك وضعيات معرفية ( ثقافية)، ووضعيات منهجية، ووضعيات تواصلية، ووضعيات وجدانية وأخلاقية، ووضعيات حركية، ووضعيات مهنية تقنية
أهمية الوضعيات- المشـــاكل:
من المعلوم، أن للوضعيات أهمية كبيرة في اختبار المناهج الدراسية، وتقييم المدرسة المعاصرة، والتمييز بين التقليدية منها والجديدة ، ومعرفة المدرسة المنغلقة من المدرسة الوظيفية والمنفتحة. وعليه، فإن الوضعيات هي محك الكفاءة والمردودية، وإبراز للقدرات والمهارات والمواهب المضمرة والظاهرة. إنها تربية على حل المشاكل المستعصية، واقتراح الحلول المناسبة والممكنة، والتحفيز على التعلم الذاتي، وتجاوز للطرائق التقليدية القائمة على التلقين، والحفظ، وتقديم المعرفة والمحتويات بواسطة المدرس إلى التلميذ السلبي.
ومن الأكيد أن التربية بالوضعيات هي التي تفرز الكفاءات والقدرات العقلية المتميزة ، فهي التي تربط المدرسة بالواقع وسوق الشغل ، وليس ذلك من خلال الشواهد والدبلومات و المؤهلات، بل من خلال الشواهد – الكفايات. بيد أن هذه الوضعيات والكفايات ليست عصا سحرية لمعالجة كل مشاكل وزارات التربية والتعليم ، مثل: معالجة اكتظاظ التلاميذ في الفصول الدراسية، ونقص في تكوين المدرسين، وإيجاد الحلول المناسبة للوضعية الاجتماعية للمدرسين، وتوفير الوسائل والإمكانيات المادية والبشرية، بل إن طريقة التعليم بالكفايات والوضعيات طريقة بيداغوجية لعقلنة العملية الديداكتيكية تخطيطا وتديرا وتسييرا وتقويما، وتفعيلها بطريقة علمية موضوعية على أسس معيارية وظيفية، وربط المدرسة بالحياة ، وسوق العمل، وتلبية حاجيات أرباب العمل، وتحقيق الجودة والمنافسة ، والسير وفق مقتضيات العولمة. ويتطلب كل هذا تغيير عقلية الإدارة والمدرس والتلميذ والآباء والمجتمع كله. ولا ينبغي أن تبقى الوضعيات والكفايات في إطارها الشكلي، أو بمثابة موضة عابرة أو حبيسة مقدمات الكتب المدرسية، أو رهينة لتوجيهات البرامج الدراسية وفلسفتها البعيدة باعتبارها غايات ومواصفات مثالية نظرية بدون تطبيق أو ممارسة فعلية وميدانية. وهنا، أستحضر قولة معبرة بكل وضوح لما نريد أن نقصده لمبلور الكفايات فيليب پيرنو(Perrenoud):"إذا ظلت المقاربة بالكفايات على مستوى الخطاب لهثا وراء الموضة، فإنها ستغير النصوص لتسقط في النسيان… […] أما إذا كانت تطمح إلى تغيير الممارسات، فستصبح إصلاحا من (النمط الثالث) لا يستغني عن مساءلة معنى المدرسة وغايتها" [2]
وعليه، فللوضعيات أهمية كبرى في مجال التربية والتعليم ؛ لأنها تؤهل المتعلم ليكون إنسانا كفءا ومواطنا مسؤولا، يعتمد على نفسه في مواجهة المواقف الصعبة والوضعيات المستعصية.
سياق الوضعيات:
لا يمكن فهم الوضعيات إلا إذا وضعناها في سياقها الاجتماعي والتاريخي، فلقد استلزم التطور العلمي والتكنولوجي المعاصر منذ منتصف القرن العشرين توفير أطر مدربة أحسن تدريب لتشغيل الآلة بكل أنماطها؛ مما دفع بالمجتمع الغربي ليعيد النظر في المدرسة وطبيعتها ووظيفتها، من خلال ربطها بالواقع والحياة وسوق الشغل، قصد محاربة البطالة، و البحث عن أسباب الفشل المدرسي، وإيجاد حل لللامساواة الاجتماعية. ويعني هذا ربط المدرسة بالمقاولة والحياة المهنية والعولمة والقدرة التنافسية المحمومة. أي : على المدرسة أن تنفتح على الواقع والمجتمع معا لتغييرهما وإمدادهما بالأكفاء والأطر المدربة الماهرة والمتميزة، فلا قيمة للمعارف والمحتويات الدراسية، إذا لم تقترن بما هو وظيفي ومهني وتقني وحرفي. إذاً، فكل هذه العوامل هي التي كانت وراء عقلنة المناهج التربوية، وجعلها فعالة ناجعة ذات مردودية تأطيرية وإبداعية.
وقد حاولت دول العالم الثالث، بما فيها الدول العربية ( المغرب، والجزائر، و تونس، وسلطنة عمان – مثلا-...)، أن تتمثل هذا النموذج التربوي القائم على بيداغوجية الكفايات والوضعيات لمسايرة المستجدات العالمية، والإنصات إلى متطلبات السوق الليبرالية ، بغية الحد من البطالة، وتفادي الثورات الاجتماعية ، والحد من ظاهرة الهجرة بكل أنواعها، مع تبيئتها في مدارسها لخلق الجودة والعقلانية، وتحصيل المردودية الفعالة. وبذلك، أصبحت التربية تابعة للسياسةالاقتصادية للدولة وظروفها الاجتماعية والتمويلية. وفي هذا الصدد، يقول نيكو هيرت (Nico Hirtt):" ما هو إذا عالم اليوم هذا ؟ يتميز محيطنا الاقتصادي بعنصرين اثنين : أولا تقلب بالغ ، وثنائية اجتماعية قوية. ينجم عن احتدام الصراعات التنافسية، وإعادة الهيكلة ، وإغلاق المصانع، وترحيل وحدات الإنتاج، واللجوء المتسارع إلى اختراعات تكنولوجية زائلة أكثر فأكثر( سواء في مجال الإنتاج أم في مجال الاستهلاك). وفي هذا السياق، تتمثل إحدى أهم مساعي أرباب العمل في المرونة. أي: مرونة سوق العمل، ومرونة العامل المهنية والاجتماعية، ومرونة أنظمة التربية والتكوين، وقابلية تكيف المستهلك.
مازالت سوق العمل حاليا منظمة بشكل قوي على أسس المؤهلات. أي: على أساس الشواهد. وتمثل الشهادة جملة معارف ومهارات معترف بها، تخضع لمفاوضات جماعية، وتخول حقوقا بشأن الأجور وشروط العمل أو الحماية الاجتماعية. ولإتاحة دوران أكثر ليونة لليد العاملة، بات أرباب العمل يسعون لتدمير هذا الثنائي المتصلب: مؤهلات- شواهد، واستبداله بالثنائي كفايات- شواهد مبنية على وحدات تكوين( مصوغات أو مجزوءات .Modulaire)"[3]
وهكذا، يتبين لنا بأن سياق الوضعيات يتمثل في الانفصال بين النظرية والتطبيق، أو في غربة المدرسة عن الواقع و سوق الشغل.
خصائص الوضــعية- المشكل:
ثمة مجموعة من الخصائص التي يجب أن تتميز بها الوضعية المشكلة- حسب أستوفلي (ASTOLFI)[4]، نذكر منها:
ينبغي أن تحدد الوضعية عائقا ينبغي حله.
أن تكون الوضعية حقيقية ملموسة وواقعية تفرض على التلميذ صياغة فرضيات وتخمينات.
تشبه هذه الوضعية لغزا حقيقيا ينبغي حله، و مواجهته بالقدرات المكتسبة.
تكون ذات خصوصية تحدد مجال فعل الكفاية.
توصف ضمن لغة واضحة ومفهومة من قبل التلميذ.
تتطلب الوضعية معارف وقدرات ومهارات تساهم في تكوين الكفاية في شتى مستوياتها المعرفية والحركية والوجدانية.
تتشابه مع وضعية حقيقية يمكن أن تواجه الأفراد خارج المدرسة، ضمن الحياة المهنية أو الحياة الخاصة.
ينبغي أن يكون المشكل الذي يعد للتلميذ مشكلا حقيقيا، لا يكون فيه الحل بديهيا.
تشكل الوضعية فرصة يثري فيها التلميذ خبراته.
تحدد الوضعية وفق المستوى المعرفي للتلميذ.
سياق بيداغوجيا الكفايات:
ظهرت بيداغوجيا الكفايات بعد أزمة التشغيل التي كانت تعاني منها، ومازالت تعاني منها دول العالم الثالث؛ لأن المدرسة لم تعد وظيفية تساهم في التنمية الشاملة، وتحقق المستقبل السعيد للمتعلمين وخريجي الجامعات الذين يتزايدون سنة بعد سنة. وقد ساهمت هذه المدرسة غير الوظيفية في ازدياد أفواج العاطلين بشكل خطير. لذا، فكرت الدول أن تربط المدرسة بالمحيط وسوق الشغل، عن طريق تأهيل المتعلمين تأهيلا وظيفيا ، وتكوينهم تكوينا كفائيا، بتسليحهم بمجموعة من القدرات والكفايات المهارية والمعرفية والمنهجية والأدائية لمواجهة تحديات الواقع الموضوعي. بمعنى آخر، تزويد المتعلمين أو الخريجين بكفايات ضرورية وأساسية، يحتاجونها أثناء مواجهتهم لوضعيات جديدة أو صعبة أو مركبة أو معقدة أو متنوعة، بغية التكيف مع الواقع الموضوعي، سيما واقع الشغل أو العمل.
وفي هذا السياق بالذات، ظهرت بيداغوجيا الكفيات لتعيد النظر في وظيفة المدرسة التي تركز كثيرا على المعارف الكمية على حساب الكفايات والمهارات والقدرات الوظيفية. ومن ثم، ركزت هذه النظرية الجديدة على ثلاثة مكونات ضرورية، هي: الكفايات، والوضعيات، والسياق الوظيفي. ومن ثم، أصبحت مقاربة إجرائية ناجعة في معالجة مشاكل التربية والتعليم، خاصة مشكل التقويم الذي يعتمد على مفهوم جديد، هو مفهوم الإدماج الذي يعني إدماج المتعلم لموارده المكتسبة حين مواجهة الوضعيات الصعبة .
وعلى العموم، تسعى بيداغوجيا الكفايات إلى تأهيل رجال الغد ونسائه لتحمل مسؤولياتهم بطريقة قائمة على الإبداعية، والمسؤولية الشخصية، والارتكان إلى التعلم الذاتي، و مواجهة المشاكل والوضعيات الجديدة. ومن جهة أخرى، تسعى إلى تشجيع المتعلم والطالب على البحث والاستكشاف والابتكار، ومواجهة الظروف الصعبة، كما تساعده على التحلي بروح العمل ، وتحقيق الجودة، والمثابرة الجادة، والمبادرة الحرة ، وتحمل المسؤولية. أي: تكوين مواطن مسؤول وكفء .
وينضاف إلى ذلك، أن هذه النظرية التربوية الجديدة تهدف إلى تمهير المتعلم بمجموعة من الكفايات الأساسية والمستعرضة التي تجعله يواجه مختلف الوضعيات التي تواجهه في الحياة العملية. لذا، فقد ارتبطت هذه النظرية بسوق الشغل، وكان الهدف منها هو تمهين المتعلم لكي يواكب مختلف التطورات التي قد تصادفه في سوق العمل. علاوة على ذلك، لابد للتعليم أن يكون وظيفيا مرتبطا بسوق الشغل، بغية القضاء على البطالة والأمية الوظيفية. ومن ثم، فالمدرسة - حسب نظرية الكفايات- هي آلية من آليات الإبداع و الابتكار والاختراع والإنتاج والعمل والتطور الديناميكي.

إرسال تعليق

 
Top