إذا كان التوجيه السليم ينبني على معرفة الفرد لميولاته واستعداداته وقدراته ورغباته، ومعرفته بمحيطه الدراسيّ والمهنيّ وبما يوفره من فرص وما يمكن أن يعترضه من إكراهات.. فإنّ
واقع الممارسة الميدانية لكل تلك القواعد سالفة الذكر يكاد يكون في حُكم ما ينبغي أن يكون لأسباب ذاتية وموضوعية مختلفة، ترتبط بمنظومة التربية والتكوين خاصة، والقيم المتداولة في المجتمع، عموما.
ولعلّ من بين القيم المتداوَلة داخل مجتمعنا تصنيف المهن إلى درجات وأصناف، وربط ممارستها برُتب اجتماعية و»حظوة» أو «حقارة»، تبعاً لما توفره من دخل مادّي، وما تسهم فيه من رُقيّ اجتماعي، والوسائل التي تستعمَل في مزاولتها، والأمكنة التي تمارَس فيها تلك الأنشطة، وكذا الصورة الذهنية الموجودة في المخيال الشّعبي عن ممارسها، بل وحتى طبيعة الهندام الذي تحتاجه للاشتغال فيها...
لقد ساهمت كل هذه المحدّدات وغيرها، في ربط المِهن بقيم اجتماعية محدَّدة، سواء كانت سلبية أو إيجابية، مما يؤثر بشكل سلبيّ على الاختيارات الدّراسية والمهنية للتلاميذ والطلبة، حيث نجدهم يقبلون، بل ويتنافسون، على تتبّع مسارات دراسية محدَّدة، رغبة منهم في الوصول إلى ممارسة مِهن بعينها، لِما لها من جذب نفسيّ مرتبط بقيم المجتمع نحوها، علما أنّ أطر التوجيه التربوي -على قلة أعدادهم- يعملون على نشر ثقافة ما يمكن أن أسميه «العدالة المهنية»، والتي مفادُها أنْ لا فرْقَ بين مهنة وأخرى من حيثُ القيم الكونية المرتبطة بها، بل إنّ الفرق يكمن في مدى قدرة الفرد على ممارسة تلك المهنة ورغبته فيها وحبّه لها، وترجمة ذلك في قيمة ما يُقدّمه من خدمات للمجتمع من خلال ممارستها..
إنّ المتأمل في حجم معاناة تلامذتنا في رسم مَعالم مستقبلهم الدراسي والمهني، وما يرافقه من هزّات نفسية تكاد تعصف بعقولهم، خصوصا في نهاية المرحلة الثانوية التأهيلية، وبالأخصّ قبيل اجتيازهم امتحانات الباكالوريا وبعدها، يجد أنّ من أسبابها استحضارهم القيمَ الاجتماعية التي ألبسناها للمهن، التي هي في الأصل كلها شريفة، ما دامت وسائلها وغايتها ومنتوجاتها تمتح من المعنى نفسِه (الشّرّف).
فعندما يرى التلميذ (ة) أنّ قدراته وميوله تتجه نحو شعبة أو تخصّص معين يأخذه تفكيره بعيدا نحو المِهن المُرتبطة بذلك التخصّص، فيَقِرُ في ذهنه ما اصطبغه المجتمع على تلك المهن من قيم، فإنْ كانت إيجابية يتحقق لديه نوع من التوافق النفسيّ المفضي إلى وضع خطواته الأولى في الاتجاه الصحيح.. أمّا إن وجد أنّ المجتمع قد ألبسها لبوس السّلبية فإنه يكون أمام خيارين أحلاهما مُرّ، فإما أن يسير في الطريق ذاتِه إرضاءً لميوله وتوافقا مع قدراته، مُتحمّلا بذلك عبئا نفسيا ثقيلا من المحيط، القريب قبل البعيد. أو أن يختار مسارا آخر يُرضي «هوى» المجتمع ويكون بذلك قد وضع قدَمه الأولى على طريق التعثـّر، الذي وإنْ لم يكن على المدى المنظور، فإنه سيكون تحقيقا للمثل المغربي «مْن الخيمة خرْج عْوْج»، على المدى البعيد..
إنّ القيم الاجتماعية للمهن تسهم -بشكل كبير- في الاختيارات الخاطئة للتلميذ (ة) علما أنّ وجود مهنة من المهن تعبّر، في الأصل، عن حاجة اجتماعية يتولى ممارسوها تلبيتها في إطار من التكامل المفروض وجودُه بين مختلف الأنشطة خدمةً للمجتمع، واحتراما للفروق الفردية بين أفراده.. ومن ثم فهذه دعوة صريحة إلى الآباء والأولياء بتجنيب أبنائهم ثقلاً إضافيا، قد يكون سببا في فشلهم الدّراسي، وقد يُخلـّف آثاراً نفسية عميقة لا تندمل مع الزّمن، بفتح آفاق أرحّب أمامهم لتحقيق اختياراتهم الدراسية والمهنية، ومساعدتهم على بلورة تلك الاختيارات، إنْ لم يكن بالتشجيع والتأييد، فعلى الأقلّ بعدم فرض تصوراتهم واختياراتهم، أو إسقاط حسهم المُشترَك على المسارات الدّراسية والمهنية على الأبناء.
وهذه الدعوة موجهة، أيضاً، إلى الفاعلين التربويين، الذين يجب أنْ تشمل أدوارهم التوجيهَ السليم، دون السقوط في فخّ «تفضيل» مهنة على أخرى، سواء بالتصريح أو التلميح.. واعتبار كل المِهن التي تخدم مصلحة المجتمع حاملة لكلّ القيم الإيجابية، شرط أن يكون ممارُسها أو المشتغل فيها يقف على ثغر من الثغور التي لا يجب أن يؤتى منه المجتمع.. والأكيد أن تغيير قيم الأسرة والمدرسة تجاه المِهن سيؤدي، حتماً، إلى تغييرها على مستوى أشملَ ليعُمّ المجتمع بكامله.
إرسال تعليق