محمد المديوني
الحوار المتمدن-العدد: 3287 - 2011 / 2 / 24 - 18:30
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
الحوار المتمدن-العدد: 3287 - 2011 / 2 / 24 - 18:30
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
"الواقع ليس متغيرا فحسب، ولكن التغيير يشكل واقعنا"
Denis PELLETIER
"المهم بالأساس هو أن يتوفر للشخص مشروع حياة"
جون ماري لين (جائزة نوبل للكيمياء 1987)
غالبا ما يتم الحديث عن المدرسة كمؤسسة لإعداد الناشئة من أجل المستقبل،
وبالرغم من صحة هذا المنطق بالنظر إلى أدوار المؤسسة التعليمية، إلا أنه يخفي
مفارقة كبرى حين ننسى، أو حين نتجاهل فكرة أن المدرسة ليست مجرد فضاء للإعداد
لحياة مستقبلية، لكنها، أيضا وأساسا، فضاء للحياة "هنا.. والآن "!!
وإذا كانت "مهنة" التلميذ هي التمدرس، فإن ذلك لا يجب أن يحجب عنا
حقيقة أن التعلمات لا تنفصل عن حياة حقيقية يعيشها الأطفال والمراهقون خلال ترددهم
المستمر على المؤسسة التعليمية، وأن المجهود الذي يبذله كل واحد منهم للاستجابة
لمتطلبات البرنامج الدراسي ينبني بالأساس على المعنى الذي يمنحه لهذا الفضاء.
فكيف يمكن لنا أن نجعل من المؤسسة التعليمية فضاء يضج بالحياة؟ وكيف نحول ولوج
آلاف التلاميذ إلى مؤسساتنا من دخول "شبه قسري" إلى إطار أنيطت به مهمة
الإعداد لحياة آتية (حياة الراشدين) إلى ولوج إلى عالم ممتع، وفضاء تمارس فيه
الحياة في غنى وتنوع تمظهراتها، في فرحة الاكتشاف.. في قلق الأسئلة، وفي ثراء
التبادلات؟وحتى نتيح للتلميذ أن يستثمر بالشكل الأمثل فرص النماء الشخصي والمهني،
لابد من خلق الشروط التي تمكن من خلق الإحساس بالفعالية الشخصية وبقدرته على اتخاذ
القرار، ولا بد أن يمر ذلك عبر وضع التجارب التعلمية للتلاميذ ضمن سياق ملائم،
وضمن سيرورة تمنح معنى إيجابيا لتردد تلاميذنا على الفضاء المدرسي.
لقد عرفت منظومة التربية والتكوين،منذ صدور تقرير المجلس الأعلى للتعليم الذي
كرس مبدأ " جعل المتعلم في قلب منظومة التربية والتكوين، وتسخير باقي
الدعامات الأخرى لخدمته"، دينامية جديدة تأسست على مرجعيات الميثاق الوطني
للتربية والتكوين. وأوجد الحديث عن نفس جديد للإصلاح قاعدة لتفعيله مجسدة في
البرنامج الاستعجالي عبر مجالاته ومشاريعه التي قدمت العديد من تصورات وإجراءات
التطوير الممكنة لمنظومة التربية والتكوين. وبإمكان المتفحص لمضمون تلك المشاريع
أن يتبين تداخلها وتكاملها اللذين يشكل الوعي بهما، وبناء آليات تتيح تفعيلهما
الشرط الرئيس لإنجاح مجهود الإصلاح والتطوير.
وإذا سلمنا بأن التوجيه التربوي ليس مجرد سيرورة مدرسية، وأنه يبنى أيضا عبر
علاقات مستمرة مع واقع مختلف الأوساط الاجتماعية، مع فاعلين يمارسون نشاطا مهنيا،
وعبر التطبيق المتدرج للكفايات خارج الوسط المدرسي كذلك، فإن الهدف الرئيس للمدرسة
يغدو متمثلا في تيسير مسار التلاميذ، أي تطورهم الشخصي، الاجتماعي والمهني بهدف تسهيل
اندماجهم السوسيومهني. وذلك ما يعبر عنه مفهوم "المدرسة الموجهة".
إن مختلف مشاريع البرنامج الاستعجالي تؤسس-على الأقل من الجانب النظري- قاعدة
صلبة ودعامة حاملة لمفهوم "المدرسة الموجهة" في انتظار الحسم الفعلي في
مسألة المقاربة المعتمدة في مجال التوجيه التربوي، حسم لا يمكن أن يتم إلا من خلال
انكباب جدي على مشكلات التوجيه بالنظام التعليمي، وتوافق يشارك في صنعه مهنيو
المجال، بتنسيق كامل مع باقي مكونات وفاعلي منظومة التكوين. ويظل الهدف الرئيس هو
أن تصبح وظيفة التوجيه معترفا بها بشكل واضح كمكون مندمج ضمن الرسالة التربوية
للمؤسسات، وأن تصبح المدرسة في كليتها موجَهة، حتى تتيح للتلاميذ أن يقيموا بشكل
صحيح ميولاتهم وقدراتهم، وأن يتم إعلامهم بشكل متلائم حول البرامج والمسارات
المهنية، وإرشادهم بشكل فردي كلما تطلب الأمر ذلك، في اتجاه تجسيد حقيقي للمبدإ
الذي يضع المتعلم في قلب منظومة التربية والتكوين، ويسخر باقي الدعامات الأخرى
لخدمته.
إن المقاربة الموجهة، تجعل الفاعلين في منظومة التربية والتكوين، وفي علاقة
بالآباء وشركائهم الاجتماعيين والاقتصاديين، ملزمين بتنظيم المدرسة بالشكل الذي
يحولها إلى فضاء دينامي يضع التلميذ في مركز اهتمامه عبر مساعدته على بناء معارفه
وكفاياته، ليس "من أجل الغد البعيد" ولكن " هنا والآن" وتبرز مختلف التصورات
الموجودة أن المدرسة الموسومة ب"الموجهة" تدمج مهمة التوجيه ووسائل عمله
ضمن مشروعها التربوي، إنها مدرسة بقدر ما تشتغل على ربط علاقات التعاون والتنسيق
بين مكونات الطاقم التربوي والإداري وبين هؤلاء وآباء وأمهات التلاميذ، تبحث أيضا
عن أفضل السبل لإدماج وتيسير مشاركة مكونات الوسط الاجتماعي والاقتصادي والمدني.
كما أنها تستطيع أن تشكل داعما إضافيا لجيل يجد صعوبة في بناء هوية متماسكة، يبدو
فاقدا لمعالم كانت تقدمها المدرسة في الماضي كجسر للارتقاء الاجتماعي، وهو ملزم،
من خلال اكتشاف ملموس للمهن، بفتح العين على ذاته، على الوجود من حوله، وأن يكون
قادرا على أن يخلق روابط مع سيرورة دراسة من المهم أن تظل منتظمة.
وتهدف المقاربة الموجهة إلى مواكبة التلميذ في تنمية هويته وفي تدرجه الشخصي
والمهني. وتترجم هذه المنهجية بتوطين خدمات جماعية وفردية، وأدوات وأنشطة تربوية
مندمجة في المشروع التربوي للمؤسسة المدرسية، وهي تجعل من جميع المتدخلين في
المدرسة والجماعة فاعلين معنيين ببناء مشروع الحياة لدى التلميذ؛ وتنبني على قاعدة
التجريب والمساءلة النظرية في إطار دينامية تستوحي المنهج البنائي الاجتماعي الذي
يركز على البعد العلائقي والاتصال بالآخر (المواكبة-التعاون-الشراكات..)
ومن أجل تفعيل هذا المسعى بمؤسساتنا التعليمية، يمكن أن نستوحي العديد من
التجارب الناجحة في أنظمة التعليم بدول سبقتنا إلى تجريب هذا التوجه من خلال تبني
مقاربات ملائمة، علما بأن روح المدرسة الموجهة تقتضي تكريس روح التخيل وحس الإبداع
والقدرة على انتظام الفاعلين والفرق. فإذا كانت إمكانيات العمل غير محدودة، فإن
ذلك يفترض أيضا اعتبار السياقات المحلية.
ولعل أول شرط يفرض نفسه لتوطين هذه المقاربة يتمثل في "أن تدمج المؤسسة
التعليمية في مشروعها التربوي وفي أنشطتها بما في ذلك أنشطة التدريس، مفهوم
"المدرسة الموجهة" بحيث تسائل هذه الرؤية للمدرسة وتستفز كل المتدخلين".
وهنا لا بد من التأكيد على شروط ضرورية لتوطين وتدعيم المقاربة الموجهة
بفضاءاتنا المدرسية:
• تطوير رؤية مشتركة بين المتدخلين، واستراتيجيات
للتنفيذ
• تشكيل فرق حاملة لمشروع المدرسة الموجهة داخل
المؤسسات
• تشجيع التبادلات، وتوفير فرص اللقاءات، وخلق
بيئة ميسرة لتطوير الممارسات داخل البيئة المحلية
• إدماج الأنشطة والمشاريع المرتبطة بمختلف
المقاربات التربوية (بيداغوجيا الإدماج، الكفايات، العمل بالمشروع، الأندية...)،
واعتبار الفوارق، و"تشجيع التعلم بشكل آخر"ويمكن للعناصر التالية أن تشكل أنشطة وأطرا
ميسرة لتفعيل المقاربة الموجهة:
• تفعيل أندية الحياة التربوية بشكل يمنح للتلاميذ
فضاءات بديلة تتيح لهم بناء الذات وإمكانيات هائلة "للتعلم بشكل آخر"
• منتديات المهن: تشكل إطارا غنيا لربط الصلة
بعالم الشغل من خلال شهادات حقيقية لمهنيين متطوعين (أعضاء جمعيات ومنظمات مهنية،
أمهات وآباء التلاميذ...) يكتشف من خلالها التلاميذ مسارات دراسية ومهنية
بتعرجاتها وعوائقها، بمظاهر النجاح والفشل خلال المسار والمقاومة من أجل تحصين
المشروع الشخصي.
• إدماج المشاريع الشخصية والمهنية للتلاميذ ضمن
مشروع تربوي متكامل للمؤسسة، يشارك في تصوره، وبنائه، وتتبعه، وتقييمه، وتصحيح
اختلالاته، بشكل فعلي ونشيط ، كل المتدخلين في فضاء هو ملك في الأول والآخر
للتلميذ نسميه "مدرسة".
• إن دعم التوجيه يجب أن يتجسد أيضا في أنشطة
تتيح اكتساب المنهجيات السليمة للعمل وللتعلم الذاتي، ولكن إضافة لذلك يجب أن تدمج
بشكل أفضل الأنشطة المتمركزة على معرفة الذات، وإضاءة الاختيارات المهنية بخدمات
التوجيه والإرشاد باعتبارها مساعدة للتلاميذ على تنمية تقديرهم لذواتهم، وإضاءة
تطلعاتهم أو إعادة إحياء انخراطهم في الدراسة. خاصة أن الإحساس بالفاعلية الشخصية
وبتقدير الذات يشكل مؤشرا للتميز الذي يعد ضروريا لدعم الدافعية للعمل ومن ثمة
للنجاح.
ويمكن تلخيص الحاجات المستهدفة من خلال الأنشطة التي يمكن اقتراحها على
التلاميذ في:
• معرفة الذات
• معرفة عالم المهن
• القدرة على اتخاذ القرار
• القدرة على التعبئة ضمن مشروع
يدعم دافعية النجاح.....لكن الحديث عن الفضاء المدرسي يجب ألا
ينسينا الأهمية الخاصة للفصل الدراسي ضمن هذا الفضاء، إنه فضاء اجتماعي مصغر تختزل
بين جدرانه العديد من إشكالات وانتظارات المجتمع الكبير، وإذا أردنا أن نجعل منه
فضاء للحياة، فلا بد أن يتوفر الوعي الكافي، والإرادة الحقيقية للتدخل على ثلاثة
مستويات:
• التنشئة بما تعنيه من إدماج
متدرج للثقافة ، والمواطنة، فتعلم العيش داخل فصل هو تعلم للعيش داخل مجتمع.
• التعلم والمواكبة بما يتضمنه
ذلك من مساعدة على بناء كفايات متعددة من خلال برامج المواد التعليمية، ولكن أيضا
من خلال فتح الجسور بين هذه المواد بما يكفل بناءا معرفيا متكاملا.
• التنسيق والمواكبة المتبادلة
بين أعضاء هيأة التدريس حتى تظل الجسور مفتوحة بين مختلف مكونات المعرفة، وأيضا من
أجل أن تظل جذوة الأمل في التغيير والإبداع وجرأة المبادرة مشتعلة.
إن فصل الدراسة كفضاء للحياة هو المكان الذي يقضي فيه المتعلم الحصة الكبرى من
وقته، ولذلك فإنه لا يشكل، أو لا يجب أن يشكل بالنسبة له عبورا اضطراريا في انتظار
"الأنشطة الموازية"، أو مكانا لاستهلاك المعارف، ولا مكانا للعبور من
أجل تحصيل شهادة أو دبلوم. فلم يعد مقبولا أن تكتفي المدرسة بأن تكون مكانا
للتلقين، لأن الحياة الحقيقية لأي تلميذ تجري "هنا والآن" أي داخل
الفضاء المدرسي..
وإذا كان نشاط التدريس داخل الفصل يجزئ التعلّم بالضرورة، مع ما يمكن أن ينتج
عن ذلك من فقدان لمعنى ما يتم تعلّمه -وهذا جانب أساسي يدخل في تفسير التعثرات
المدرسية- فإن المدرسة مطالبة ببذل جهد كاف لإعادة تكوين معنى ما يدرس، من خلال
"مشروع" كفيل وحده بأن يحفّز التلميذ، ويتيح له أن يكون شريكاً، وأن
يساهم في ما ينبغي عليه التحكم فيه، بدل أن يعيش تمدرسه كضحية لدفق من المواد التي
تنقضّ عليه، وتجعل التعلّم مضجراً، إن لم يكن مقلقا.
وإذا كان مؤكدا أن غنى التبادلات الاجتماعية والعائلية يبقى أساسيا بالنسبة
للقدرة على بناء المشاريع. فإن ذلك يطرح على المؤسسة المدرسية- سعيا إلى دمقرطة
مأمولة- وظيفة توفير الشروط والوضعيات المثيرة لمثل هذه التبادلات، مع الاهتمام في
الآن ذاته بالجوانب المعرفية، كما بالجوانب الوجدانية والعلائقية، من أجل تقديم
أكثر ما يمكن من عناصر الإجابة على أسئلة غالبا ما يطرحها التلميذ على ذاته بشكل
ضمني وينتظر من المدرسة ومن الراشدين عموما أن يجيبوه عنها.
لكل ذلك يبدو من الضروري أن يتم التفكير جديا في إعادة الاعتبار للتوجيه
التربوي داخل منظومة التربية والتكوين وتمكين المؤسسات من الأدوات والآليات
والإمكانيات اللازمة لتطوير ممارساته، وكذا في مراجعة المناهج والبرامج مراجعة
جذرية توجه المدرسة نحو أنبل اتجاه: البناء المشترك لكفايات تساهم في التنمية في
أبعادها الشاملة، وتجعل التعلم والتعليم لا مجرد نشاط يعد للمستقبل، ولكن أيضا
متعة واكتشافا وقلقا ومساءلة تعاش بشكل مشترك "هنا .. والآن "، تكاد
تنصهر في "متعة واكتشاف وقلق ومساءلة الحياة"، فمن خلال ذلك فقط يمكن
لمنظومتنا التربوية أن توجه مؤسساتنا التعليمية كي تجسد مفهوم "المدرسة
الموجهة".
المراجع:
·
وثائق البرنامج
الاستعجالي
·
تقرير المجلس الأعلى
للتعليم
·
ندى مغيزل، 1992
·
Denis PELLETIER, conférence , dans « ECOLE
ET ORIENTATION » par Dominique LAMOTTE
·
8ème Colloque sur l’approche orientante,
Rapport général ; 2009
·
Danielle FERRE, L’approche orientante, clé
de voûte des apprentissages, Cahiers Pédagogiques – Dossier L’orientation –
n°463 – Mai 2008
·
Mario Lévesque
·
Prendre le rivage du succès, l’école
orientante : un concept en évolution ; M. de l’éducation du Québec; 2000
إرسال تعليق