هو رجل السوسيولوجيا المتميز في المغرب، على يديه تخرج جيل من علماء الاجتماع المغاربة، يطرح دائما الأسئلة الموجعة، حمل معه أسئلة التغيير والديمقراطية، ومهدت أطروحاته لفهم التحولات التي عرفها ويعرفها المجتمع المغربي، إنه مسار استثنائي للمناضل والعالم والسياسي محمد جسوس.
أخلاق السياسة
"إنهم يريدون خلق جيل من الضباع" كان دائما يرددها بحرقة قاسية، ولنا أن نذكر له كما كبيرا من الكلمات الموشومة في الذاكرة الجمعية للمغاربة، كان الرجل يطرح دائما كل تلك الأسئلة المقلقة التي يخشى معظم المثقفين طرحها،عن ذلك المغرب المشتهى الذي لم يكتب له أن يرى النور بعد، عن الانتقال المجهض وعن التغيير الحقيقي، هو السوسيولوجي الذي سرقته السياسة وأخذت منه التزاماته الكثير من الجهد والوقت، هو محمد جسوس أب السوسيولوجيا المغربية والعلامة الفارقة في تاريخها، والذي كان له الفضل في تكوين جيل كبير من السوسيولوجيين المغاربة، وأرسى القواعد الأولى عن طريق كتاباته لتأسيس خطاب سوسيولوجي يتميز بالعقلانية والحس النقدي وبتقيده بالاشتغال في حدود العلم.
جسوس الذي يناهز عمره 75 سنة اليوم كان دائما رجلا جريئا في طرح الأسئلة الصعبة بلغة تخصه وحده، لغة مختلفة عن الآخرين وتتجاوز تلك المقاربات التقليدية الجامدة، اعتاد أن يفكك كل رموز الإشكالات التي ترهن مستقبل تقدم البلد بطريقته المتميزة، هكذا كنت تجده يضع السياسات التعليمية وقضايا الهوية موضع مساءلة لا تخجل من الأجوبة القاسية، تلك الأجوبة المفترضة التي قد تجبر صاحب فكرة السؤال على التخلي عنه في الوقت الحالي، كان التغيير والانتقال الديمقراطي فكرة سكنت الرجل دائما ومازالت تسكنه إلى اليوم، كان جسوس يعتبر ذلك مدخلا أساسيا لبناء استقرار الدولة، لم يكن أبدا ذلك المثقف الذي يقف متفرجا على ما يقع من حوله من برجه العاجي، وكما شرح الأشعري في حفل تكريم خاص له نظم قبل أسابيع، فإنه وإلى جانب كونه منظرا كان رجل ميدان بامتياز، فهو نموذج للمثقف الذي يعيش حياة المدينة بكل تناقضاتها وهشاشتها، أما السياسة فقد كان جسوس يمارسها بشكل مختلف بل ويدعو الجميع إلى ممارستها بشكل آخر غير الشكل الذي كانت تمارس به، سواء داخل حزبه الاتحاد الاشتراكي أو خارجه.
كان يصر دائما على ربط السياسة بالقضايا الكبرى، وفي كثير من المرات كان يجر ذلك عليه الكثير من المشاكل، لكنه ظل مصرا على أن يأخذ في كل مرة مسافة مناسبة ليتفحص بعين ناقدة تجربة الحزب السياسية، ويطرح بكل شجاعة تلك التساؤلات المزعجة التي تضع الأصبع على مكمن الخلل دون خجل، الفكرة بالنسبة لجسوس كانت بسيطة وهي أن التغيير يبدأ من خلال معرفة الواقع.
"السي محمد" كما يحلو للاتحاديين أن ينادوه، كان المنظر والمناضل وأيضا الزعيم السياسي اليساري القادر على تذويب كل الخلافات وجعل الجميع يلتفون حوله، رأى جسوس النور في دروب المدينة العتيقة بفاس سنة 1938، وشد الرحال بعدها إلى الديار الكندية، حيث حصل على شهادة علم الاجتماع من جامعة "لافال" في سنة 1960، لم تتوقف طموحاته وتوقه إلى اكتساب المزيد من العلم عند هذا الحد، إذ سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة برينستون في سنة 1968، كطالب أثار جسوس إعجاب الأمريكيين الذين أصروا على الاحتفاظ به أستاذا بالجامعة ذاتها، غير أنه فضل العودة إلى أرض الوطن والتحق بجامعة محمد الخامس، والتي عمل فيها أستاذا لعلم الاجتماع، بين الجامعة والسياسة والحياة توزع مسار حافل لرجل استثنائي، كان يشتغل دون أن ينتظر مقابل، وبالتالي لم تكن له طموحات سياسية كبيرة بالوصول إلى المناصب أو الاستحقاقات التي قد تغري أي سياسي، كان يقول دائما إنه دخل السياسة لاعتبارات أخلاقية وفكرية، لم يكن الهدف بالنسبة إليه هو الوصول إلى السلطة بل تغيير المجتمع والمساهمة في الإصلاح الشامل.
المُنظّر الأول
جسد محمد جسوس مثالا للمدرسة التي آمنت بالتحام السوسيولوجيا العلمية بالفلسفة النقدية، وبوجود علاقة اتصال بينهما، وترك بذلك فكرا يستحق التدريس لكيفية فهم تحليل المجتمع المغربي وتشريح التحولات التي يعرفها، أسئلته الجريئة كانت دوما مؤشرا على وعي سابق وفراسة رهيبة تفطن لكل قضايا المجتمع، وتفتح الباب لتشريح واقع تلك القضايا الملحة، تحدى الرجل الصعوبات التي كانت تعترض مجال البحث الاجتماعي في المغرب، وعدم إيمان النظام السياسي في ذلك الوقت من تاريخ المغرب المتسم بسيادة الرأي الواحد بأن المعرفة هي مقدمة التقدم والتنمية، فطرح مبكرا كل تلك القضايا الشائكة عن الوضع الطبقي.
كانت السوسيولوجيا في منطق جسوس لا تخضع لليقين وإنما تشتغل في إطار النقاش والتساؤل الدائم، السوسيولوجيا تنتصر في النهاية حينما تنجح في الفصل بين العلم والسياسة، فبالنسبة لأب السوسيولوجيا المغربية فإنه لابد من التمييز بين التحليل السوسيولوجي والموقف السياسي، جسوس المعلم الذي كانت دروسه وأبحاثه ومحاضراته منطلقا لبناء مدرسة سوسيولوجية مغربية خرجت من رحمها أسماء عديدة، كان دائما يذكر بأن البحث العلمي يقوم على قراءة النصوص الأصلية الحقيقية وليس ما صدر عنها من قراءات أو تحليلات من الدرجة الثانية.
الملاحظة كما يمكن لمن تتبع الإنتاج الفكري أن يستنتج هي المرتكز الذي تقوم عليه الممارسة السوسيولوجية بالنسبة إليه، باعتبارها تقنية يجب أن يقوم عليها أي عمل علمي، ويطمح لأن يصل إلى نتيجة موضوعية، لأن الملاحظة كما يراها جسوس تحيلنا دائما على فرضيات تبقى دائما قابلة للاختبار، استعمل الملاحظة لفهم تلك التحولات والتغيرات التي يعرفها المجتمع المغربي، توصل جسوس إلى استنتاجات عديدة تصلح لفهم ما يعتمل المجتمع المغربي اليوم، استنتج ظهور حركيات اجتماعية واكبها بروز فئات اجتماعية جديدة سمتها الهامشية والعدمية بما يرتهن بالصراع الإيديولوجي والثقافي ..تحول الأنماط التقليدية للتبعية إلى نمط بيروقراطي جديد يظهر في شكل محسوبية متعددة الأوجه، وغيرها من الاستنتاجات التي توصل إليها محمد جسوس في محاولاته المبكرة لرصد التحولات التي تطبع المجتمع المغربي، وخاصة المجتمع القروي، حيث خصص جسوس جزءا كبيرا من وقته لفتح النقاش السوسيولوجي حول المجتمع القروي، فمن خلال هذا المجتمع كما يعتقد الرجل يمكننا في نهاية المطاف فهم "مآل المجتمع المغربي" .
لم يكن جسوس كما قال بنفسه يطمح إلى تأسيس مدرسة "جسوسية" في السوسيولوجيا، فهو وحتى وقت غير بعيد احتفظ بعلاقة ملتبسة مع الكتابة والقلم، ولولا إلحاح عدد من أصدقائه والمقربين منه لما قرأنا كثيرا من أعماله وطروحاته عن المسألة الاجتماعية وعن التربية والتعليم وغيرها من التيمات، والتي أعدت للنشر فيما بعد، كان الرجل يميل إلى الشفهي أكثر منه إلى المكتوب رغم اقتناعه في الأيام الأخيرة بأن الحاجة إلى المكتوب أصبحت ملحة، هكذا كان جسوس مناضلا فوق العادة ومثقفا عضويا حقيقيا لم يبحث أبدا عن شهرة مزيفة أو مجد شخصي، في تكريمه الأخير حضر جسوس وترك الرسالة التالية " السوسيولوجيا اليوم دخلت معركتها الثانية، وهي معركة تجاوز وضعية البداية والهيمنة والدخول في سياق التحولات الراهنة، وإعادة تنظيم المجال حتى تستجيب السوسيولوجيا لتطلعات المشتغلين فيها "، هذه وصية أب السوسيولوجيا المغربية.
الباحث المغربي المختار بنعبدلاوي لـ"هسبريس": رجل خسره علم الاجتماع ولم يقدر الحزب قيمته
على خلاف عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ظل محمد جسوس قريبا من الحياة السياسية اليومية. لقد بقي لديه الأمل في أن يكون "الاتحاد الاشتراكي" حزب التغيير الذي يتطلع إليه، والذي هو موضوع علم الاجتماع، ولذلك أعطى وقته، وسخر مهاراته لخدمة المشروع الحزبي، بسبب هذا الإيمان بالدور الطليعي الذي يمكن أن يلعبه الحزب، خسرت الجامعة المغربية شخصية تتمتع بقدرات فذة، ربما كان بإمكان محمد جسوس أن يدخل طرائق متميزة في الدراسات السوسيولوجية في الجامعة المغربية، أو أن يساعد في إعادة النظر في الطرائق التي كانت تدرس بها النظريات الاجتماعية. كان بإمكان شخصية مثل محمد جسوس، درست في الولايات المتحدة أن تسهم، في فترة حاسمة من تاريخ الجامعة، في نقل التلقي السائد لـ: "علم الاجتماع": من النموذج النظري المؤدلج والفج إلى نموذج لعلم اجتماع كمي واختباري، في خدمة التنمية.
لسوء حظ الجامعة؛ كانت أولويات محمد جسوس حزبية، لذلك اختار العمل التنظيمي، ووجه طاقته باتجاهه، في الوقت الذي كان من القلائل القادرين على تقديم تصور مختلف، مشفوع بدلائل قوية، وبطرائق رياضية وإحصائية واضحة الأهداف، قادرة على تقديم مقاربة مختلفة لدرس السوسيولوجيا.
بالمقابل؛ لم يستفد الحزب بدوره من هذه المعرفة. كانت :"الكلمة" باستمرار داخل الحزب للأصوات العالية، وللقدرة على الحشد، وفنون الضرب تحت الحزام. ولعل هذا ما جعل محمد جسوس، رغم تبوئه مقعدا في المكتب السياسي في مراحل حاسمة من تاريخ المغرب المعاصر، عاجزا عن التفكير وعن العمل داخل الحزب "كمهندس لسوسيولوجيا السياسة" أو كقارئ لدينامية الفضاء العمومي، ظلمت محمد جسوس السياسة لأنها حرمته من أن يكون له الأثر العلمي المفترض في الجامعة وفي الحياة الثقافية (بسبب التصنيف الأيديولوجي) كما ظلم من طرف الجامعة لأن الأخلاق الأكاديمية لم تسمح له بأن يتألق في برك السياسة المتكدرة والآسنة، رغم هذا وذاك ظلت هناك بصمة دفينة في أعماق شباب الحزب: إنها الواقعية السياسية والنزعة النقدية، وإخراج الفهم السائد للحداثة من الدائرة السياسية بالمعنى الضيق إلى رؤية كونية بالمعنى الواسع للمفهوم .
كاتب المقال:عماد استيتو
المصدر    : هسبريس

إرسال تعليق

 
Top