يواجه المعلم عادة بعض الصعوبات لدى ممارسته عملية التعليم الصفي، وذلك بغض النظر عن خبرته وعدد سنوات خدمته ونوع المادة التي يدرسها، والمرحلة التعليمية التي يؤدي مهامه فيها. وتشكل هذه الصعوبات مشكلات عامة يواجهها المعلمون كافة من وقت لآخر، وتأخذ أشكالاً معينة، كما ترتبط بطبيعة العملية التعلمية ـ التعليمية ذاتها.
وإن اكتساب المعلم للخبرة، يجعله أكثر قدرة على مواجهة مثل هذه المشكلات ومعالجتها، بيد أن ذلك لا يعني نجاح عملية التعليم على النحو الأفضل. فالتقدم التقني السريع والمستمر، يطرح أمام المعلم باستمرار مشكلات جديدة عليه أن يقوم بمواجهتها وإيجاد الحلول لها، الأمر الذي يجعل المعلم في حاجة مستمرة وملحة إلى فهم أفضل للأسس والمبادئ التي تقوم عليها عملية التعليم، بحيث يتمكن من تسهيلها وجعلها أكثر نجاحة وفعالية.
ويعتبر علم النفس التربوي من المواد الأساسية اللازمة لتدريب المعلمين وتأهيلهم، لأنه يزودهم بالأسس والمبادئ النفسية الصادقة التي تتناول طبيعة التعلم المدرسي، ليصبحوا أكثر فهماً وإدراكاً لطبيعة عملهم، وأكثر مرونة في مواجهة المشكلات الناجحة عن هذا العمل.
ويقوم دور علم النفس التربوي في مجال تدريب المعلمين وتأهيلهم على الافتراض القائل بوجود مبادئ عامة للتعلم المدرسي، يمكن استنتاجها أو اشتقاقها من بعض النظريات التي تبدو صادقة، كما يمكن التأكد من صدق هذه المبادئ على نحو مخبري أو تجريبي، وإيصالها إلى المعلم على نحو فعال، فتزوده بالقدرة على اكتشاف أكثر طرق التعليم نجاحة، وتحرره من الطرق التقليدية السائدة. وكلما كانت تلك الطرق أكثر ارتباطاً بطبيعة عملية التعلم المدرسي، وبالعوامل المعرفية والانفعالية والاجتماعية التي تؤثر فيها، كلما كانت أكثر صدقاً وفعالية.
ولكن ماذا يفعل المعلم في حالة غياب مثل هذه المبادئ؟ إن غياب المبادئ السيكولوجية الصحيحة للتعلم المدرسي يؤدي بالمعلم إلى الاستعانة بأحد البدائل الثلاثة التالية، فقد يعتمد المعلم على القواعد التربوية التقليدية، أو يلجأ إلى تقليد معلميه القدامى وزملائه ذوي الخبرة، أو قد يقوم بعمليات المحاولة والخطأ للوقوف على المبادئ التي تحكم عملية التعلم المدرسي.
ومما لا شك فيه، أن بعض القواعد التربوية التقليدية التي تناقلتها الأجيال، قد صمدت عبر الزمن، وربما تكون صحيحة. بيد أن استمرار «قاعدة» ما، لا يعني صدقها بالضرورة، فالكثير من «القواعد» و«التقاليد» ما زال يسود في العديد من المجتمعات الإنسانية على الرغم من بيان عدم صدقها. ومع ذلك، فإن تطبيق القاعدة التربوية التقليدية، حتى في حال صدقها، يختلف باختلاف الشروط التربوية وبتغير الأهداف التعليمية، حيث لا يمكن إتباع أكثر القواعد ثباتاً وصدقاً على نحو أعمى، إذ يجب باستمرار إعادة اختبار هذه القواعد في ضوء الشروط التربوية المتغيرة. ويرى أوزوبل (Ausubel, 1977) أن القاعدة بحكم تعريفها، تصاغ بمصطلحات عامة، لذا لا يمكن وجود قاعدة لكل موقف أو وضع تعليمي يواجهه المعلم. أما المبادئ، فهي أكثر مرونة من القواعد، لأنها أقل تحديداً، ويمكن تبنيها للوقوف على الفروق بين الأفراد والمواقف والظروف فمعظم الأوضاع التربوية، تتطلب نوعاً من التوازن بين عدة مبادئ ذات صلة وثيقة بهذه الأوضاع، أكثر مما تتطلب التطبيق العشوائي لقاعدة تقليدية شائعة. ويستطيع المعلم الفعال إيجاد حلول مناسبة للمشكلات التي تواجهه، باللجوء إلى مجموعة من المبادئ السيكولوجية الصحيحة التي يزوده بها علم النفس التربوي، وذلك عوضاً عن التطبيق الأعمى لقاعدة تربوية تقليدية واحدة.
أما اللجوء إلى محاكاة معلم قديم أو زميل خبير، فقد ينطوي على نوع من الحكمة، ويؤدي إلى الاطمئنان والاستقرار، وبخاصة عند المعلم حديث العهد بمهنة التعليم، أو غير المؤهل تربوياً. بيد أن أسلوب المحاكاة يستلزم وجود نموذج جيد، وألا غدت عملية المحاكاة عائقاً يحول دون التقدم المهني للمعلم، ومهما كان النموذج المحتذى جيداً، فما زال خطر التقليد الأعمى لهذا النموذج قائماً. لذا يجب إعادة النظر في النموذج باستمرار لتكييفه مع الشروط والأهداف التربوية المتغيرة. ولن يكون النموذج في أحسن حالاته، بديلاً عن المبادئ السيكولوجية السليمة التي تحكم عملية التعليم والتي يجب على المعلم اللجوء إليها لتساعده في مواجهة المشكلات الناجحة عن طبيعة عمله.
والبديل الثالث الذي قد يلجأ إليه المعلم غير الملم بمبادئ علم النفس التربوي، هو أسلوب المحاولة والخطأ. إن اكتشاف مبادئ أو طرق التعليم من خلال هذا الأسلوب يعتبر عملاً عشوائياً، ومضيعة للجهد والوقت، دون أية فائدة مرجوة. لذا يجب على المعلم، كما يرى أوزبل أن يبدأ بمجموعة من المبادئ السيكولوجية القائمة ذات العلاقة بالتعليم المدرسي، حيث يختار على نحو عقلاني أفضل الطرق والتقنيات التعليمية الحديثة، عوضاً عن الضياع في متاهات الحدوس الغامضة. فالمبادئ السيكولوجية الصادقة، لا توحي بالعديد من أساليب التدريس الجديدة فقط، بل تستبعد أيضاً كافة المحاولات التي لا تستحق الاختبار، لعدم اتفاقها أصلاً مع المبادئ النفسية التي أكدت البحوث صدقها.
أهداف علم النفس التربوي
يسعى علم النفس التربوي إلى تحقيق هدفين أساسيين (Gooduim and Klausmeier, 1975) الأول، توليد المعرفة الخاصة بالتعلم والطلاب وتنظيمها على نحو منهجي بحيث تشكل نظريات ومبادئ ومعلومات ذات صلة بالطلاب والتعلم. والهدف الثاني لعلم النفس التربوي، هو صياغة هذه المعرفة ف ي أشكال تمكن المعلمين والتربويين من استخدامها وتطبيقها.
يشير الهدف الأول إلى الجانب النظري الذي ينطوي عليه علم النفس التربوي. فهو علم سلوكي، يتناول دراسة سلوك المتعلم في الأوضاع التعليمية المختلفة حيث يبحث في طبيعة التعلم ونتائجه وقياسه، وفي خصائص المتعلم النفسية ـ الحركية والانفعالية والعقلية ذات العلاقة بالعملية التعليمية ـ التعلمية، كما يبحث في الشروط المدرسية والبيئية التي تؤثر في فعالية هذه العملية. ويلجأ علماء النفس التربويون إلى استخدام أنواع مختلفة من مناهج البحث، لتوليد المعارف التي تقع ضمن حقل اهتماماتهم، وتتراوح هذه المناهج بين عمليات الضبط التجريبي التي تتم في المخابر وتتناول الحيوانات وعمليات الملاحظة المباشرة التي تجري في الصف المدرسي وتتناول الطلاب والأطفال.
ويشير الهدف الثاني لعلم النفس التربوي إلى جانبه التطبيقي، فمجرد توليد المعارف ووضع النظريات والمبادئ ذات العلاقة بالتعلم والطالب لا يضمن نجاح عملية التعليم، إذ لابد من تنظيم هذه المعارف والنظريات والمبادئ في أشكال تمكن المعلمين من استخدامها واختبارها وبيان مدى صدقها وفعاليتها وأثرها في هذه العملية. لهذا، يعمل علماء النفس التربويون على تطبيق ما يصلون إليه من معارف ومبادئ ونظريات على الأوضاع التعليمية المختلفة، ويقومون بتعديلها في ضوء النتائج التي يسفر عنها هذا التطبيق، بحيث يطورون العديد من طرق التعليم ووسائله، لتحقيق أفضل النتائج التعلمية.
وبهذين الهدفين لعلم النفس التربوي، يتم تجاوز مشكلة سد الثغرة بين النظرية والتطبيق، لأنه يتضمن هذين الجانبين معاً، فلا هو نظري بحت، كعلم النفس، ولا هو تطبيق محض، كفن التدريس، بل يحتل مركزاً وسطاً بينهما. إلا أن ذلك لا يحول دون استفادة علم النفس التربوي من النظريات والمبادئ والمعارف التي وتولدها فروع علم النفس الأخرى، كعلم نفس النمو، وعلم النفس التجريبي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الإكلينكي.
ويمكن لعلم النفس التربوي، أن يجمع بذلك أفضل ما تجيء به هذه العلوم من نتائج، وأن يحقق اهتماماً مشتركاً بين الاختصاصي النفسي والاختصاصي التربوي، بحيث يغدو عملهما أكثر فعالية وجودة.


المشكلات التي يواجهها المعلم
يقوم علم النفس التربوي ـ كما ذكر سابقاً ـ بتزويد المعلمين بمجموعة من المبادئ والمعارف تساعدهم على أداء مهماتهم التعليمية بشكل أفضل، وتمكنهم من مواجهة المشكلات التي قد تنجم عن طبيعة هذه المهام، فيجدون الحلول المناسبة لها، ويبتكرون الطرق والوسائل الملائمة التي تسهل عملية التعليم وتجعلها فعالة قدر الإمكان.
ويواجه المعلم عادة عدداً من المشكلات تؤثر في أدائه المهني على نحو أو آخر، بيد أن اهتمام علماء النفس التربويون يتجه في معظم الأحيان نحو المشكلات التي ترتبط بطبيعة العملية التعليمية ـ التعلمية والناجمة عنها، فما هي هذه المشكلات؟ ينصف كيج (Gage, 1979) هذه المشكلات في خمس فئات أساسية تتفق مع طبيعة هذه العملية وجوانبها المختلفة، وهي:
1 ـ المشكلات المتعلقة بالأهداف:
على المعلم أن يبدأ نشاطه التعليمي بتكوين فكرة واضحة عما يريد إنجازه من خلال عملية التعليم، أي يجب أن يقف على الأهداف التي يتوقع من الطلاب إنجازها نتيجة هذه العملية، لذا سيواجه مشكلة اختيار وصياغتها، وطرق تزويد الطلاب بها.
2 ـ المشكلات المتعلقة بخصائص الطلاب:
يتباين الطلاب عادة في العديد من الخصائص الجسدية والانفعالية والعقلية والاجتماعية، الأمر الذي يفرض على المعلم مواجهة مشكلة فهم الطلاب، وذلك من خلال التعرف على قدراتهم المتنوعة، ومستوى نموهم، ونقاط ضعفهم وقوتهم، لتحديد مدى استعداداتهم وقدراتهم على إنجاز الأهداف التعليمية المرغوبة.
3 ـ المشكلات المتعلقة بالتعلم:
يحتاج المعلم من أجل أداء مهمته التعليمية إلى معرفة المبادئ المتنوعة التي تحكم عملية اكتساب المعلومات لدى الطلاب، وتشكل هذه المعرفة تصوراً معيناً لديه من الكيفية التي يؤثر فيهم من خلالها. ولما كانت أنواع السلوك التي يمارسها الطلاب عديدة ومتنوعة، وتحكمها مبادئ تعلمية مختلفة، فسيواجه المعلم مشكلة اختيار مبادئ التعلم التي تتفق مع طبيعة المواقف التعليمية ـ التعلمية المتنوعة، والتي تفرضها عليه شروط النشاط التعليمي الذي يقوم به.
4 ـ المشكلات المتعلقة بالتعليم (التدريس):
يلجأ المعلمون عادة إلى استخدام طريقة أو أكثر من طرق التدريس، وتختلف هذه الطرق باختلاف المواد المدرسية والطلاب والشروط التعليمية الأخرى. ومن المألوف أن يواجه المعلم في هذا المجال مشكلة اتخاذ القرار فيما يتعلق باختيار الطرق والوسائل الأكثر نجاحة، فهل يلجأ مثلاً إلى استخدام طريقة المحاضرة أم المناقشة؟ وهل يستخدم لوحات إيضاحية أم فيلماً تلفزيونياً..؟
5 ـ المشكلات المتعلقة بالتقويم:
إن النشاط التعليمي الأخير الذي يقوم به المعلم، هو التقويم. وعملية التقويم هذه، تمكن المعلم من التعرف على مدى التقدم في مجال تحقيق الأهداف التعليمية، ويجابه المعلم في هذه المرحلة من مهمته التعليمية مشكلة اختيار أو تطوير الإجراءات التي تساعده على معرفة هذا التقدم والوقوف على ما إذا كان التعليم يجري على نحو جيد أم لا.
إن استعراض الأنواع المختلفة للمشكلات التي تجابه المعلم أثناء عمله، والمرتبطة بطبيعة هذا العمل، تبين المجالات الأساسية التي يوجه علماء النفس التربوي جهودهم نحوها، وتشكل تصوراً واضحاَ ومعقولاً للموضوعات التي يتناولها هؤلاء العلماء بالدراسة والبحث، الأمر الذي يجعلهم قادرين على تزويد المعلم بالمعلومات والمبادئ والأسس ذات العلاقة الوثيقة بما يقوم به من نشاطات تعليمية مختلفة، والتي تساعده على مواجهة هذه المشكلات وابتكار الحلول المناسبة لها، فما هو موضوع علم النفس التربوي، وما هي المكونات الأساسية لعملية التعلم والتعليم التي تحظى باهتمام الباحثين وجهودهم؟
موضوع علم النفس التربوي
عانى علم النفس التربوي، كغيره من العلوم الأخرى، نوعاً من التطور خلال السنوات الخمسين الماضية، بحيث يصعب تحديد موضوعه بدقة تامة، خلال هذه المرحلة من تاريخه، فقد تباينت موضوعات هذا العلم بتباين الباحثين وتباين وجهات نظرهم، كما يعود تباين هذه الموضوعات إلى اختلاف المشكلات الناجمة عن العملية التعليمية ـ التعلمية وتنوعها، وإلى تطور اهتمامات الباحثين والعلماء في ميادين علم النفس الأخرى، الأمر الذي جعل أوزبل (Ausuble, 1986) يتساءل عن حقيقة وجود ميدان يسمى بعلم النفس التربوي.
ويشير تاريخ هذا العلم وتطوره إلى اتساع ميدانه عبر الزمن، فقد وجه الباحثون اهتماماتهم في الثلاثينات من هذا القرن نحو الموضوعات المرتبطة بسيكولوجية التعلم والمواد الدراسية كالقراءة والحساب، ولدى انتشار مفاهيم الصحة النفسية والعلاج النفسي ضمن الباحثون في علم النفس التربوي هذه المفاهيم في مؤلفاتهم ودراساتهم، وعاد الاهتمام من جديد في الخمسينات إلى موضوعات التعلم، دون الخوض بمسألة سيكولوجية المواد الدراسية، حيث تركت للمختصين في تدريسها.
وللوقوف على أهم الموضوعات التي تناولها علم النفس التربوي خلال تاريخه القصير، يروي أبو حطب وصادق (1980) النتائج التي وصل إليها «بل» لدى قيامه بمسح الموضوعات التي انطوت عليها كتب علم النفس التربوي والبالغة مئة كتاب عام 1971، حيث تبين أن أكثر الموضوعات توافراً هي:
1 ـ النمو الجسمي والانفعالي والمعرفي والاجتماعي والخلقي.
2 ـ التعلم ونظرياته وطرق قياسه والعوامل المؤثرة فيه.
3 ـ انتقال أثر التعلم والاستعدادات وطرق التدريس وتنظيم المواقف التعليمية.
4 ـ الذكاء والقدرات العقلية وسمات الشخصية وقياسها.
5 ـ التحصيل وأسس بناء الاختبارات التحصيلية، وشروط الاختبارات النفسية والتربوية.
6 ـ التفاعل الاجتماعي بين الطلاب وبين الطلاب والمعلمين.
7 ـ الصحة النفسية للفرد والتكيف الاجتماعي والمدرسي.
ينطوي كل موضوع من هذه الموضوعات على عدد من الموضوعات الفرعية المرتبطة بها، وتشير إلى مزيج مختلط ومتباين، ينتمي في معظمه إلى ميادين علم النفس الأخرى، وقد يعود ذلك إلى المفهوم القائم لعلم النفس التربوي آنذاك، حيث «يتوقف هذا المفهوم على تصور كلي يرى وجود نماذج بين كل موضوع تربوي وكل موضوع نفسي» أبو حطب وصادق (1980) الأمر الذي حال دون تحديد موضوع هذا العلم على نحو دقيق.
وينحو أوزوبل (1978) منحى أكثر دقة وصلة بالعملية التعليمية ـ التعلمية في تحديده لموضع علم النفس التربوي، حيث يحدده بمشكلات التعلم التالية:
1 ـ اكتشاف تلك الجوانب من عملية التعلم والتي تؤثر في اكتساب المعارف أو المعلومات والاحتفاظ الطويل المدى بها.
2 ـ التحسين ذو المدى الطويل للتعلم والقدرة على حل المشكلات.
3 ـ اكتشاف أي من الخصائص الشخصية والمعرفية للمتعلم ذات العلاقة بالتعلم واكتساب المعرفة، وكذلك اكتشاف أي من الجوانب الاجتماعية والعلاقات الشخصية المتبادلة في البيئة التعليمية التي تؤثر في نتائج تعلم المادة الدراسية واكتشاف عوامل دافعية التعلم والطرق النموذجية لاستيعاب هذه المادة.
4 ـ اكتشاف الطرق الأكثر كفاءة في تنظيم المواد التعليمية وتقديمها، وكيفية توجيه التعلم واستشارته نحو أهداف محددة.
يتضح من الموضوعات التي يطرحها أوزوبل إمكانية استنتاج موضوع علم النفس التربوي على نحو مباشر من المشكلات التي تواجه معلم الصف أثناء قيامه بعملية التعليم، بحيث يمكن القول بأن الجوانب النظرية العامة للتعلم تقع في ميدان علم النفس، بينما يقع التعلم المدرسي في ميدان علم النفس التربوي، لأنه يحدث في سياق اجتماعي معين. لذا يقوم الباحثون ف هذا العلم باكتشاف المبادئ والطرق والوسائل ذات العلاقة بالتعلم المدرسي والتي يعمل على استثارة دافعية الطلاب وتساعدهم على التحصيل الأكاديمي، وذلك من خلال التعرف على العوامل الهامة التي تؤثر في تعلمهم، وعلى أنواع التعلم القادرين عليها واليت تتفق مع خصائصهم الشخصية والمعرفية المختلفة.
وبالرغم من أن هذا التحديد لموضع علم النفس التربوي ذو صلة وثيقة بالعملية التعليمية ـ التعلمية والمشكلات الناجمة عنها، إلا أنه لا يعطي تصوراً متكاملاً للمكونات الأساسية لهذه العملية، يتضح من خلاله تفاعلها وتكاملها في كلٍ موحد. لهذا لجأ بعض علماء النفس التربوي المعاصرين إلى استخدام مفهوم «النموذج» لتوفير مثل هذا التصور، وسعياً وراء تحديد أدق لموضع هذا العلم، حيث اعتبروا التعلم المدرسي وما ينتج عنه من مشكلات، الموضوع الرئيسي له.
ويشير مفهوم المنظومة أو «النموذج» عادة، إلى مجموعة من العلاقات المنظمة والمتفاعلة فيما بينها، وتربط بين عدد من العناصر أو المكونات التي تشكل كلاً أو نمطاً موحداً ومتكاملاً ويؤدي وظيفة معينة. وتساعد معالجة العملية التعليمية ـ التعلمية كمنظومة، في تحديد موضوع علم النفس التربوي على نحو أكثر دقة من المعالجات التي سادت من وقت لآخر في تاريخ هذا العلم. وربما تفي المنظومة التي وضعها جودوين وكلوزماير (Gooduin and Klausmeier, 1975).
تؤدي هذه المنظومة عدداً من الأهداف الهامة هي:
1 ـ تبين المكونات الأساسية لموضوع علم النفس التربوي، وهي: الأهداف، ومدخلات الطلاب، وعمليات التعلم وأنواعه، والتقويم.
2 ـ تبين مدى تداخل هذه المكونات وتفاعلها فيما بينها.
3 ـ تشير إلى العملية العقلانية التي يتناول فيها علم النفس التربوي موضوعاته من حيث تحديد الوسائل والغايات بوضوح، وكذلك تحديد العلاقات الطبيعية التي ترتبط بينها.
4 ـ توفر للمعلم أسلوباً منظماً يمكن من إدراك المفاهيم الأساسية لعملية التعلم، كما يمكن من ضبط هذه العملية وبيان مدى نجاحها في تحقيق الأهداف المرغوبة.
5 ـ تعطي فكرة واضحة عن الاستراتيجية المتبعة في تنظيم مواد هذا الكتاب.
ويرى جودوين وكلوزماير أن هذه المنظومة تنطوي على جانبي قوة وضعف، حيث يتجلى جانب القوة في السهولة التي تمكن المعلمين والمعنيين بالشؤون التربوية والتعليمية من إدراك الأسس والمفاهيم التي تقوم عليها عملية التعلم، أما جانب الضعف فيتجلى من خلال التبسيط الزائد لهذه العملية المعقدة، لما تنطوي عليه من المتغيرات المتنوعة والمتعددة، والتي تتفاعل فيما بينها، وتؤثر بشكل أو بآخر في التعلم ونتائجه، الأمر الذي يصعب معه إجمالها في مثل هذه الطريقة. بيد أن هذا الضعف لا يعني بالضرورة الحيلولة دون تحقيق الأهداف السابقة، التي تعتبر هامة لكل معني في الميدان النفسي والتربوي. وفيما يلي مناقشة لكل من المكونات الأربعة التي تشتمل عليها المنظومة وتكون الموضوع الرئيسي لعلم النفس التربوي.

أ ـ الأهداف التعليمية: Instructional Objectives
من المفترض أن لا يبدأ المعلم عمله إلا بعد تحديده للأهداف التي يرمي إلى تحقيقها من خلال تدريس مادة معينة، أي يجب عليه أن يحدد مسبقاً التغيرات السلوكية التي يهدف إلى إحداثها عند طلابه. ويساهم علم النفس التربوي بطرق عديدة ومتنوعة في عملية وضع الأهداف، حيث يبحث في مصطلحاتها وطرق صياغتها، وآثارها في التحصيل، كما يبحث في أنواعها وطرق تصنيعها، الأمر الذي يسهل على المعلم مهمة تحديد أهدافه وصياغتها وتقويمها.
ب ـ مدخلات الطلاب: Students Inputs
تؤثر خصائص الطلاب الراهنة وما اكتسبوه من سلوك سابق في تعلمهم اللاحق وطرقه. وهذا يفرض على المعلم مهمة التعرف على تلك الخصائص التي يتسم بها طلابه وتؤثر في قدراتهم على التعلم. ويساهم علم النفس التربوي إلى حد بكير في دراسة وتحديد أكثر الخصائص أهمية وتأثيراً في التحصيل وقابلية للقياس. كالقدرات العقلية المتنوعة ومستوى النمو، والخلفية الاقتصادية ـ الاجتماعية والثقافية، ومستوى الدافعية والتحصيل.
ويقدم علم النفس التربوي الكثير من المعلومات والطرق التي تمكن المعلم من الاستفادة من هذه الخصائص في مجال اختيار الأهداف، مما يشير إلى عدم انفصال مدخلات الطلاب عن عملية اختيار الأهداف وصياغتها، وهذا ما يدل عليه السهم المتجه من الخطوة الثانية إلى الخطوة الأولى، لأن الأهداف توضع عادة بالاستناد إلى نتائج الدراسات والبحوث التي تتناول خصائص الأطفال في مراحل نموهم المختلفة، وبالاعتماد على العمليات المناسبة التي تمكنهم من تحقيق مستويات النمو الخاصة بهم، وهذا يتيح إمكانية سبق عملية قياس خصائص الطلاب على عملية تحديد الأهداف، ولكن من المألوف وضع الأهداف أولاً، لأنها تتناسب مع أهدفا المنهاج التعليمي والسياسة التربوية المعتمدة.
وإن تزويد المعلم بالمعارف المتعلقة بخصائص الطلاب وارتباطها بتعلمهم، كالمعارف الخاصة بالعلاقة بين القدرات العقلية المتنوعة والتحصيل، والعوامل البيئية والوراثية المؤثرة في هذه القدرات، وكالعلاقة بين بعض سمات الشخصية ـ كالواقعية ومستوى الطموح، والتعلم، وطرق استثارتها وعوامل تكونها، يسهل على المعلم أداء مهمته، كما يسهل عملية التعلم عند الطلاب، ويجعل العلمية التعليمية ـ التعلمية أكثر نجاحة، وبتعبير آخر، يساهم علم النفس التربوي في فهم خصائص الطلاب، وطرق التعرف عليها وتحديدها، وفي الكيفية التي تؤثر من خلالها في التعلم. 
وللوقوف على خصائص الطلاب أو مدخلاتهم السلوكية، يقترح أوتو وماكمينمي ثلاثة مستويات لتشخيصها، هي:
1 ـ مستوى التشخيص المسحي: Survay Diagnosis
ويشير إلى عملية غربلة صفية يقوم بها المعلم ذاته بهدف التعرف على الطلاب غير القادرين على إنجاز الأهداف التعليمية الموضوعة، ويستخدم فيها الاختبارات التحصيلية واختبارات القدرات العقلية، كما يعود إلى ملفات الطلاب للوقوف على مستواهم الثقافي والاقتصادي ـ الاجتماعي وسجلهم التراكمي، بحيث يستطيع تحديد قدراتهم الكلية على العمل والإنجاز، وتعيين الذي يحتاجون إلى مستويات أدق من التشخيص. ويطبق هذا المستوى من التشخيص في غرفة الصف وعلى نحو جماعي.
2 ـ مستوى التشخيص المحدد: Specific Diagnosis
يهدف هذا النوع من التشخيص إلى التعرف على الفروق الفردية التي تسبب الضعف التحصيلي عند بعض الطلاب، بحيث يجيب تحديد استجابات المتعلم الحقيقية بشكل دقيق للوقوف على المعوقات التي تحول دون قدرته على إنجاز الأهداف التعليمية. ويطبق هذا التشخيص على نحو فردي ويقوم به معلم الصف أو المرشد النفسي أو المختص في علم النفس التربوي بالمدرسة.
3 ـ مستوى التشخيص المركز: Intensive Diagnosis
يسعى هذا المستوى إلى التعرف على الطلاب المتخلفين عقلياً ويحتاجون إلى برامج علاجية وتعليمية خاصة، ويقوم به عادة عالم النفس التربوي أو الإكلينيكي أو المعالج النفسي، ويستخدم فيه العديد من الاختبارات للوقوف على أسباب التخلف ومظاهره وطرق علاجه.
ج ـ تخطيط النشاط التعليمي وتنفيذه:
ينطوي المكون الثالث لمنظومة العملية التعليمية ـ التعلمية على النشاطات ذات العلاقة بالتعلم وأنواعه بأساليب التعليم المختلفة، إذ يجب على المعلم أن يشكل تصوراً واضحاً عن طبيعة التعلم، للوقوف على المبادئ الأساسية التي تحكم عملية الاكتساب عند الطلاب، والتي يمكن من خلالها التأثير في سلوك الفرد وتغييره. ويقوم علم النفس التربوي بتزويد المعلمين والمهتمين بالأمور التربوية، بأنواع مختلفة من هذه المبادئ، مبيناً مدى فعاليتها وملاءمتها للأوضاع التعليمية المختلفة، ويعود تنوع هذه المبادئ إلى تنوع السلوك البشري ومستوياته التي تختلف باختلاف النمو الجسمي والانفعالي والعقلي للفرد.
وبالإضافة إلى ضرورة التعرف على طبيعة التعلم وأنواعه، يجب على المعلم أن يكون قادراً على اختيار أسلوب التعليم المناسب ذي العلاقة بالمادة الدراسية موضع الاهتمام وقدرات الطلاب المتنوعة. ويقوم علم النفس التربوي في هذا المجال بمساعدة المعلم على اختيار أكثر الأساليب التعليمية فعالية في تحقيق الأهداف التعليمية، وذلك من خلال بيان العلاقة بين أنواع التعليم وأساليب التعليم، وتحديد العوامل التي تؤثر فيها، مما يسهل العملية التعليمية ـ التعلمية بالنسبة للمعلم والطالب على حد سواء.
د ـ التقويم Evaluation
يشكل التقويم المكون الرابع والأخير من العملية التعليمية ـ التعلمية، ويتناول معرفة مدى تقدم الطلاب من حيث تحقيق الأهداف، إذ يجب على المعلم أن يعرف ما إذا كان الطلاب قد تعلموا أم لا، أي يجب أن يقف على التغير الذي يطرأ على سلوكهم نتيجة التعلم. بيد أن هذا ل يعني أن التقويم مرتبط بالأهداف فقط، بل يرتبط أيضاً، وعلى نحو وثيق، بالمكونين الآخرين لعملية التعلم، وهما مدخلات الطلاب وتخطيط النشاط التعليمي وتنفيذه، لأن التقويم عملية مستمرة تبدأ قبل تنفيذ النشاط التعليمي وترافقه وتتلوه. أي هناك تقويم قبل التعليم، وتقويم أثناء التعليم، وتقويم بعد التعليم.
ويوفر علم النفس التربوي بعض المعارف والأفكار التي تساعد المعلم على القيام بعملية التقويم هذه مبيناً أنواع التقويم المفضلة في الأوضاع التعليمية المختلفة، وأدوات القياس المتنوعة التي تتلاءم مع هذه الأوضاع، بحيث تتوافر صورة واضحة لدى المعلم، تمكن من معرفة سير عملية التعليم، إذ يقف على الجوانب التي حققت الأهداف، والجوانب التي يجب متابعتها أو تعديلها، والجوانب التي يجب الاستغناء عنها.
ولابد من الإشارة، بعد استعراض مكونات موضوع علم النفس التربوي، إلى أن جهود العلماء والباحثين في هذا العلم تتركز في معظمها على دراسة العلاقات المختلفة القائمة بين متغيرات هذه المكونات، إذ ينطوي كل منها على عدد متنوع من المتغيرات التي قد تؤثر وتتأثر بمتغيرات المكونات الأخرى، فالهدف التعليمي (التغيرات المرغوب إحداثها في سلوك الطلاب) يرتبط بشكل أو بآخر بمدخلات الطلاب (كالذكاء، وسندي التحصيل، والدافعية) وبنوع التعلم (كالتعلم الإشراطي أو المعرفي) وبأسلوب التدريس (كالمناقشة أو المحاضرة أو الاستكشاف) وبالتقويم (الوقوف على التغير الذي طرأ على سلوك الطلاب نتيجة العملية التعليمية والتعلمية).
إن التعرف على طبيعة هذه العلاقات المتداخلة والمتفاعلة، يزود المعلم بالمعلومات الضرورية التي تمكنه من أداء مهامه التعليمية على النحو الأفضل، وتمكنه من اتخاذ القرارات المناسبة في عمله الصفي، وإيجاد الحلول الملائمة لما قد يعترضه من مشكلات لدى قيامه بهذا العمل.
الخلاصة: أرجو أن أكون قد قدمت كافة المعلومات اللازمة التي تفيدكم في فهم هذا الموضوع.

إرسال تعليق

 
Top